تعيين برهاني.. برسائل خارجية ونيران داخلية..!

تحليل سياسي: مجاهد عبدالله الفاطرابي
تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسا للوزراء في هذا التوقيت الحرج، ليس مجرد خطوة عادية في دفتر تحولات السلطة في بورتسودان، بل هو تجلٍّ صريح لحالة الطواري السياسية التي يعيشها مركز القرار هناك، بعد أن تغيّر ميزان الحرب على الأرض واتخذت شكلا جديدا باستخدام الدعم السريع للطائرات المسيّرة التي أفقدت الجيش السوداني امتياز التفوق الجوي.
ولتفكيك شخصية (متخذ) القرار رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان من خلال سيرته ومسيرته حتى يتثنى لنا معرفة ماالذي يريده بالضبط نجد ان البرهان ليس رجلاً يُراهن على المبادي، بل رجل اللحظة، يتخذ قراراته تحت ظلّ الحاجة لا القناعة..! وما يرشح من داخل مطبخ مجلس السيادة في بورتسودان يُشير إلى حالة ارتباك وخلاف ، جعل من تغيير د. دفع الله الحاج – الذي لم يُكمل شهراً – بمثابة انقلاب داخلي صامت، وربما متعجّل، في أعلى هرم السلطة، فدفع الله الحاج اذا اخذنا في الاعتبار التداخل الاقليمي في الازمة السودانية نجده كان مرشحَ نتيجة لتقارب سلطة بورتسودان مع المملكة العربية السعودية ومصر ، في الوقت الذي بدأت فيه القاهرة تتململ من عجز الجيش السوداني (باعتبارها اكبر داعم له).. من حسم الدعم السريع ،و في حين أن الرياض تنظر بعين الخيبة إلى الانغماس السوداني في مستنقع لا مخرج له.
ولعل البرهان استشعر اخيرا أن ميزان القوى يتجه إلى نقطة اللاعودة، وأن مشروع حلفأوه الحاليين من المؤتمر الوطني لم يعد قابلاً للتسويق إقليمياً أو دولياً، لذا كان لا بد من إشراك اسم له قابلية التصدير، يرضي المجتمعين الاقليمي و الدولي، ويُخفف الضغط عليه من الحلفاء التقليديين في الداخل السوداني.
تعيين كامل إدريس يحمل دلالات سياسية عديدة .. فالرجل يتمتع بشخصية وسطية ومقبولة دوليا واختياره يُرضي المؤسسات الغربية، ولديه سجل في المنظمات الدولية، مما يجعله مرشحاً “قابلاً للهضم” في الدوائر الأوروبية والأمريكية، لا سيما في ظل فشل البرهان في تقديم أي وجه مدني يستطيع أن يفتح له الأبواب المغلقة في العواصم المؤثرة.
كما ان تعيينه يعد صفعة ناعمة للإسلاميين فكامل إدريس ليس إسلامياً، لكنه ليس عدائياً كذلك للتيار الإسلامي.. وهذا ما يجعل من اختياره توازناً ذكياً، أشبه بإرسال إشارة للإسلاميين بأن زمن الحصانة المطلقة قد انتهى، وفي الوقت نفسه طمأنة لهم أنه لا يستهدفهم بالاستئصال..!، مما يُمكن البرهان من اللعب على حافة السكين دون أن يجرح نفسه.
وفي اعتقادي ان الخطوة تأتي ضمن محاولة لإرضاء الأطراف الإقليمية، وخاصة الرياض والقاهرة.. إذ لم يعد مقبولاً لدي هذه العواصم أن يستمر المشروع السياسي في بورتسودان بلا غطاء مدني مقنع، ولربما ان هناك نية لتهدئة في ميدان الحرب وقد لايتأتى ذلك الا بتغيير يراه الاطراف يمكن ان يساهم في ذلك حتى ولو لم يكن الذهاب الى مفاوضات توقف الحرب نهائيا.
التحول المفاجئ من تكليف دفع الله الحاج إلى تثبيت كامل إدريس يُعبر حقيقة عن هشاشة القرار في بورتسودان، لا عن صلابته. لكنه في الوقت نفسه، يُعبر عن إدراك البرهان بأن سياسة “الإقصاء الكامل” للأخرين قد فشلت..؟! وبالتالي فأن هذا التعيين يعني محاولة لتهدئة الرأي العام الإقليمي والدولي ايضا ويقرأ كذلك بانه يأتي إستباقاً لحكومة التحالف التأسيسي التي تتبلور في نيروبي،
ولربما يرسل رسالة مشفّرة تفيد بأن السلطة مستعدة للتفاوض، ولكن بشروط جديدة وبأشخاص جدد.
ولو اننا حاولنا نقترب من شخصية كامل إدريس قليلا نجده يتميز بشخصية تعاني من إحساس بالخذلان..!، بعد أن فشل في مسعاه السابق للترشح للرئاسة ، عندما ترشح في انتخابات العام ٢٠١٠ ولم يفوز .. الى جانب التشويش على تاريخه الدولي بقضية تزويره لشهادة ميلاده..ورغم ذلك فان هناك اشياء ايجابية في شخصيته فهو يمتلك ميلاً فطرياً للتوفيق والوفاق..!، وهو ما جعله قادراً على جمع الترابي والمهدي بجنيف في زمن استحال فيه اللقاء.
ومن يراقب شخصيتة ايضا يجدها تميل الى النرجسية ولكن اعتقد انها نرجسية إيجابية ، فهو انسان (معتد) بنفسه و يرى انه (مؤهل) لقيادة البلاد، وتلك الصفة قد تجعله بأن لا يكون أداة في يد العسكر، إلا إذا شعر بأنه يستطيع عبرهم تمرير مشروعه الشخصي..؟!.. ولربما اذا وجد نفسه لايستطيع تقديم ماعنده من افكار سيقدم على تقديم استقالته مبكرا.
وبناءا على ذلك، من غير المرجّح أن يكون دمية في يد البرهان، ويمكن ان لا يصطدم معه صداماً مباشراً في المرحلة الأولى.. وسيحاول كسب المعركة بالنفس الطويل، مستفيداً من حاجة الجميع له، لا من فرض إرادته المباشرة.
ومن خلال الاطلاع على كثير من التعليقات على تعيينه من قبل الإسلاميين وجدت ان (الغالبية) العظمى منهم ترى في تعيينه تراجعاً عن مشروعهم السياسي.. لذا يتوقع أن تبدأ حرب استنزاف ناعمة ضده داخل أجهزة الدولة.
اما الحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش فهي في اعتقادي لم تُستشر في تعيينه ولذلك فهي رافضة له ، ما يجعل من قراراته عرضة للرفض المبطن أو حتى الصريح، إن بدأ بإشراك أطراف مناوئة لهم.
وفي ذات الوقت فأن الدعم السريع وجماعة التحالف التأسيسي لايرون هناك جديد مادام ان تعيين كامل ادريس جاء من سلطة بورتسودان( الغير) شرعية في وجهة نظرهم .. لمست ذلك من خلال بعض التعليقات لمنسوبين لهم و مقربين منهم في (السوشيال ميديا) ولذلك ربما يستثمرون تعيينه لتسريع إعلان حكومتهم، مما يُحوّل الوضع السوداني إلى حالة “حكومتين متوازيتين”.
رغم الجدل الواسع حوله ـــ قد يكون رئيس الوزراء الجديد بوابة حقيقية لتمكين حكومة كفاءات.. لكن هذا مرهون بمدى استقلال كامل إدريس وقدرته على المناورة مع العسكر من دون أن يُقصى، ومع المجتمع الدولي من دون أن يُرفض، ومع القوى الداخلية من دون أن يُستهدف.
بصورة تحليلية عميقة، فإن تعيين كامل إدريس لا يعكس نضجاً في مؤسسة الحكم ببورتسودان، بل يعكس “خوفاً حقيقيا من السقوط”.
ويمكن القول انها محاولة أخيرة من البرهان للتكيّف مع متغيرات لم يعد قادراً على مقاومتها، لكن السؤال يبقى: هل هو تغيير في النية أم تغيير في التكتيك؟والاجابة على السؤالين هي انه إذا استطاع كامل إدريس أن يُثبت استقلاليته، ويجذب تيارات من المعارضة والمجتمعين الاقليمي و الدولي، فقد يكون بداية خيط الحل السوداني.. أما إذا انزلق إلى أن يكون قناعاً مدنياً لحكم عسكري مأزوم، فسيتحول إلى فصل جديد في “مسرحية الإنقاذ الثانية”.
تعيين كامل إدريس يحمل كل بذور الانفتاح الممكن، لكن تربته السياسية لا تزال قاحلة..!، نجاحه رهين بتوازن دقيق بين الحزم والاستقلالية، بين الإقناع والتنازل، وبين الدور الوطني والدولي..كما ان تعيينه ايضا ربما لا يعني بالضرورة انفتاحاً على مفاوضات جادة لإنهاء الحرب، بل يبدو أقرب إلى مناورة إقليمية لتخفيف الضغط على بورتسودان فبرهان نفسه ثبت انه يُجيد تغيير الوجوه لا تغيير المسارات..!.
ولذلك إذا فشل إدريس فإن ذلك سيكون إيذاناً ببدء مرحلة “الحكومات المتوازية”، ودخول السودان طور الانقسام السياسي الرسمي.