“الناظر سهل”.. قُتل صانع الحياة في بقاع الموت

خاص (دروب) 19 أكتوبر 2025 – وسط بقاع مشتعلة بنيران الحرب والفوضى، استطاع ناظر قبيلة المجانين سليمان جابر جمعة سهل، الذي قُتل خلال قصف جوي يوم الجمعة، صناعة الحياة إلى آلاف السكان في إقليم كردفان، بفضل حكمته التي حولت بلدة “المزروب” إلى مساحة آمنة لتبادل المنافع وكسب المعاش.
منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، انحاز الناظر سهل إلى مواطني بلدته، رافضاً كل دعوات التجييش والتسليح من طرفي الحرب، وظلت “المزروب” معقل قبيلة المجانين، منطقة خالية من المسلحين، تدير شؤونها الإدارات الأهلية، مما جعلها مركز تجارياً آمناً وشريان حياة يغذي مختلف المناطق في ولايتي غرب وشمال كردفان، وبعض البلدات في إقليم دارفور، بالبضائع والمواد التموينية، وفق متحدثين لـ”دروب”.
وظلت “المزروب” منطقة مستقرة خالية من أي مظاهر عسكرية منذ اندلاع الحرب الحالية. وفي يونيو الماضي دخلت قوات الدعم السريع لأول مرة المنطقة التي فقدت بعدها حالة الاستقرار التي كانت تعيشها، نتيجة أعمال النهب والاعتداءات التي يمارسها منسوبي الدعم السريع ضد المدنيين، مما أدخلها في حالة شد وجذب مستمرة مع الأهالي، وفق شهود “دروب”.
تحت واقع مضطرب، رحل سهل مع أكثر من 20 شخصاً من زعماء الإدارات الأهلية لقبيلة المجانين، خلال قصف بطائرة مسيرة استهدفتهم أثناء اجتماع في المزروب، كان يهدف إلى احتواء بعض التوترات مع قوات الدعم السريع، نشبت نتيجة عملية نهب نفذتها الأخيرة في المنطقة.
وتبادل الجيش وقوات الدعم السريع، الاتهامات بشأن التورط في مجزرة المزروب، فكلاهما زعم أن الآخر نفذ القصف. بينما حمل محامو الطوارئ وهي مجموعة حقوقية مستقلة، الجيش مسؤولية مقتل الزعماء الأهليين لقبيلة المجانيين.
منارة الحكمة والوعي
وسط الاتهامات المتبادلة من طرفي الحرب، يعيش مواطنو المزروب على حقيقة موت الناظر سليمان سهل، ومعظم الزعماء الأهليين لقبيلة المجانين، وهم يبكون شعلة الوعي التي انطفت، لتتركهم في ظلمات من الفراغ بين بقاع تحفها الفوضى الأمنية.
تحكي سيرة الناظر سليمان جابر، منارة من الحكمة والوعي والثقافة وقوة الموقف، وهي محصلة تجربة حياتية طويلة، بدأ في اكتسابها منذ ميلاده عام 1958م في منزل إمارة قبيلة المجانين في منطقة “دكة الشيخ” جنوبي المزروب. فهو حفيد مشاور جمعة سهل، النائب البرلماني الذي أثنى على مقترح إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان الذي تقدم به البرلماني عبد الرحمن دبكة.
وقال أحد أقارب الناظر المقتول لـ”دروب” إن الراحل درس في المدرسة الأولية المزروب، ثم مدرسة دميرة، ومنها انتقل إلى مدرسة بارا الثانوية. عمل مدرساً في مدارس المزروب لفترة طويلة، قبل أن يغترب في المملكة العربية السعودية.
وهو متزوج من السيدة منى النيل محمد جمعة سهل، وله ابن وحيد وهو محمد سليمان، وثلاث بنات.
تولى سليمان جابر جمعة سهل، النظارة في العام 2011م بعد، وفاة شقيقه الحاج جابر جمعة سهل، وكان اختياره من الأسرة وبإجماع قبيلة المجانين، وهو الابن السادس والأصغر عن والده الشيخ جابر جمعة سهل.
ووسط أجواء من الحزن انتقلت القيادة إلى ابنه الوحيد محمد سليمان جابر، بعدما توافقت الأسرة وقبيلة المجانين اليوم الأحد، على تنصيبه ناظراً خلفاً لوالده، وهو شاب صغير في السن، ما يزال طالباً في الجامعة.

جسور التواصل
بحسب رفيدة محمد، وهي أحدى أقارب الناظر الراحل سليمان جابر سهل، فإنه كان يسكن في منزله بالأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان لفترة، وبعد اندلاع الحرب، غادر مع عائلته إلى المزروب، حتى يكون بالقرب من أهله. وبعدما بدأت الأوضاع في التدهور مايو الماضي، رفض نقل أسرته إلى مكان آمن، وقال لعائلته “أنتم وجميع سكان المزروب أولادي، فكيف نخرجكم ونتركهم؟”، فبقي حتى مات فيها.
كان لوجود الناظر سليمان في المزروب خلال فترة الحرب وفق رفيدة التي تحدثت مع “دروب”، أثر كبير في استقرار المنطقة، وتماسك قبيلة المجانين ووحدتها، ونجاتها من الوقوع في مصيدة الاستقطاب الحاد الذي صاحب مجريات الصراع المسلح الحالي في البلاد.
وخلال فترة تقلده نظارة قبيلة المجانين، مد جسور التواصل مع المكونات الأهلية الأخرى في إقليم كردفان ومختلف أنحاء البلاد، وساهم في تعزيز التعايش السلمي، ورتق النسيج الاجتماعي من خلال المصالحات التي أجراها بين القبائل، والتي كان أبرزها الصلح بين قبيلتي بني جرار، والجبال البحرية.
تقول رفيدة: “جلست إلى الناظر عن قرب، أشهد له بالحكمة والرأي السديد، والشهامة والكرم، والبساطة، يعامل أهله بعفوية مطلقة، ليس آمراً ولا ناهياً، بل يستمع إلى الجميع بلين، ويجلس معهم على الأرض لحل المشاكل. كان يساهر الليالي في وسط أطواف القبيلة لحماية المنطقة طوال عامين من الحرب، على الرغم من أنه مريض سكري، تجده في كل المحافل، وأينما طُلب يلبي ببشاشته وصدره الرحب”.
وتضيف: “طوال فترة الحرب، ظل الناظر سليمان بلا هاتف وهو غير متواصل مع أي جهة، كان كل همه، سلامة سكان المنطقة، والحفاظ على تماسكهم ووحدتهم، لقد ترك فراغاً يصعب ملؤه”.
وقف الحرب
وخلال فترة الحرب وما صاحبها من فوضى شاملة، لا سيما في إقليم كردفان، قدم الناظر سليمان جابر صور خاصة من قوة الإدارة الأهلية، بعدما مكنته حكمته من الإفلات من مصيدة الاستقطاب التي نصبها طرفا الحرب الجيش وقوات الدعم السريع، فلم يبد أي تحيزات، وكان دائما ما يمني نفسه بوقف عاجل للأعمال القتالية حتى آخر لحظة من مقتله، وفق ما نقله مقرب منه لـ”دروب”.
وبمجرد انطلاقة الرصاصة الأولى، أبلغ الناظر سكان منطقته، بأنه لا مكان لمجرم أو سارق “همباتي” في المزروب وجميع حدود ديار قبيلة المجانين، ومن أراد ممارسة الإجرام أو الانخراط في الحرب عليه مغادرة المناطق الخاضعة إلى سلطاته.
وعلى إثر ذلك، غادر “الهمباتي” المعروف سليمان محمدين بريمة الشهير بـ”صليب الديك” منطقة المزروب مع بعض الهمباتة نحو محلية أبوزبد في ولاية غرب كردفان، وانخرط هناك في صفوف قوات الدعم السريع، وكون أكبر تشكيل إجرامي لممارسة النهب والابتزاز والقتل، وسط السكان هناك، قبل أن يُقتل بطائرة مسيرة لاحقاً. بينما ظلت المزروب آمنة مستقرة.
روى علي أحمد وهو مواطن من غرب كردفان يعمل في المزروب، تفاصيل الأوضاعفي المنطقة حتى لحظة مقتل الناظر ورفاقئه. وقال لـ”دروب”: “بعد تدهور الوضع في منطقتي، ذهبت إلى المزروب، وعملت في سوقها الذي وجدته تحول إلى مركز تجاري كبير، وطوال فترة وجودي هناك لم أشعر بأننا نعيش حالة حرب. هناك انضباط تام في الحياة واحترام متبادل بين المواطنين، ولا يوجد شخص يحمل سلاحاً، وكل ذلك كان بفضل قوة الإدارة الأهلية بقيادة الناظر سليمان جابر”.
ووفق أحمد، فإنه في بعض الفترات انقطع الإمداد تماماً عن كثير من المناطق في ولايتي غرب وشمال كردفان بما في ذلك الأبيض، وكانت المزروب هي المنفذ الوحيد الذي يزودها بالسلع والبضائع، ولولاها لكان السكان ماتوا جوعاً.
سودان مصغر
يضيف “كان الناظر سليمان رجل حكيم، وفر لنا الأمان والرزق، لم نشعر بأي تفرقة أو تمييز أو مضايقات من أي جهة أو أي شخص، رغم أننا لسنا من سكان المنطقة، فقد كانت المزروب طوال الفترة الماضية بمثابة سودان مصغر تضم مختلف المكونات الاجتماعية، وجميعهم يقيمون وسط تعايش سلمي وتسامح كبير”.
وبعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينتي النهود والخوي، وفرار سكانها بشكل جماعي، استقبلت المزروب نحو 12 الف نازح، وآوتهم وقدمت لهم المساعدات اللازمة، تحت إشراف زعيم الإدارة الأهلية الناظر سليمان جابر، وذلك وفق ما نقله عبد الرحمن آدم، أحد العاملين في سوق المزروب لـ”دروب”.
يقول آدم “الإدارة الأهلية بقيادة الناظر سليمان جابر، سدت الفراغ الإداري في المنطقة على أكمل وجه، وقدمت نموذجاً فريداً في الحكم الأهلي الشعبي الرشيد. لقد واجهوا العديد من التحديات من بينها الكوليرا، والعدد الكبير من النازحين، والتدهور الأمني لاحقاً، بكل شجاعة وحكمة. الناظر الراحل فقط لا يعوض، وسنبكيه مدى الحياة”.