عندما اغتصب الجنجويد إيقاعات الحياة في كردفان ودارفور

منذ قرون، شكّلت إيقاعات المردوم والجراري والنقارة نسيجًا صوتيًا أصيلًا لمجتمعات كردفان ودارفور.تعتبر هذه الإيقاعات أنماط موسيقية و رموزًا ثقافية تعبّر عن الفرح والحنين والهوية الجمعية. لكن حين اندلعت الحرب في السودان، وجدت هذه الإيقاعات نفسها مختطفة، مشوّهة، وقد أُلبست ثوب الموت. ففي سياق النزاع الحالي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (الجنجويد)، ولغت الأخيرة في الدم، واستولت على الموسيقى الشعبية وحوّلتها إلى أداة تعبئة وتحريض، مما غيّر معانيها وأفرغها من مضمونها الروحي والوجداني.
المردوم والجراري والنقارة: ذاكرة مغتصبة
المردوم كوثائقي حي للمحافل العامة،لحظات البهجة،الحصاد،طقوس العبور،التجارب الحياتية لمجتمعات البقارة يتزواج مع مقابله الجمالي الجراري الموسوم بروح الأبالة في كردفان ودارفور وثالثة الأثافى في سياق موضوعنا هي النقارة صوت المناسبات الكبرى،الإحتفالات،التحذير والإستنفار.
تحولت جميعها إلى رموز للرعب في قرى ومدن كردفان ودارفور التي اجتاحها الجنجويد.اليوم، لم تعد مجرد إيقاع، بل باتت إعلانًا لانطلاق الجحيم في المدن التي دخلتها قوات الدعم السريع، حيث تعني أصواتها قدوم الموت والمذابح بالنسبة لضحايا الغد
كيف يتم تحوير الإيقاع في سياق الحرب؟
بدأت قوات الدعم السريع في استخدام إيقاعات المردوم والجراري كخلفيات موسيقية لأغاني تمجّد الانتصارات العسكرية، وتعزز صورة الجنجويد كقوة لا تُقهر. ومن أشهر الأمثلة على ذلك:
“الكروزر الحوامة محبوبة الدعامة”: أغنية تتغنى بسيارات الدفع الرباعي (التاتشرات)، التي أصبحت رمزًا لحرب الميليشيات في السودان.
أغانٍ تمجد حميدتي وتصور قواته كأبطال لا يُهزمون، بينما تصف الجيش السوداني كعدو ضعيف.
أغانٍ تحرض على العنف العرقي، حيث تُستخدم الإيقاعات التقليدية في نشر رسائل الكراهية ضد مجموعات معينة، مما يعيد إنتاج التوترات التاريخية بطرق أشد فتكًا.
تُستثمر هذه الأغاني كأدوات للحرب النفسية،في منصات بروغباندا الإعلام الخاصة بهم.يكفي اليوم للأسف،أن يسمع أهل أي منطقة في السودان أياً من هذه الايقاعات في شوارعهم،السوشال ميديا،ليشعروا بالإمتعاض،الكراهية،الخوف و يستعدون للأسوأ.
بات من الشائع أن تنتشر مقاطع فيديو لمقاتلين من قوات الدعم السريع يرقصون على إيقاعات المردوم، يحملون الأسلحة بينما يرددون أغانٍ تمجّد الحرب. هذه المقاطع هي أدوات دعائية تهدف إلى ترسيخ صورة القوة، وبث الرعب في نفوس الخصوم، وتجنيد مزيد من المقاتلين.
النتائج الثقافية والاجتماعية لهذا التشويه
حين تنتهي الحرب، ستبقى هذه الأغاني والإيقاعات محفورة في الذاكرة الجمعية، لكن ليس كما كانت من قبل. لن يتذكر الناس المردوم باعتباره إيقاع الفرح والاحتفالات، بل كإيقاع الموت. وسيحتاج الأمر إلى عقود ربما، حتى يتم استعادة هذه الإيقاعات إلى سياقاتها الأصلية.كما أن المجتمعات التي تعاني من النزاعات المسلحة، تصبح الموسيقى جزءًا من هوية الصراع. وقد تؤدي إعادة توظيف هذه الإيقاعات في سياق الحرب إلى تعزيز الهويات المتحاربة، بحيث تتحول الموسيقى من وسيلة للوحدة إلى أداة للفرقة.وعندها ينشأ جيل كامل وهو يسمع هذه الإيقاعات في سياق الحرب، سيتعلم أن الموسيقى أيضًا سلاح. وهذا قد يؤدي إلى استمرار العنف في المستقبل، حيث تصبح هذه الأغاني جزءًا من الثقافة الشعبية، تُغنّى في تجمعات المقاتلين بدل أن تُغنّى في الحقول والأسواق والأعراس والحب.
ترى ما مامصير تلك الألحان!
أعلم تماماً ورطتنا،لقد اقتتلنا في هذه البلاد منذ فجر التاريخ،لم نكن قادرين على العيش بسلام،وأن ضحايا الأمس هم جناة اليوم أو العكس ربما.لكننا الآن أمام هاوية ليس بعدها عودة،نحتاج إلى تنازلات عظيمة،إرادة صادقة قبل أن تتحول تلك الرقصات الساحرة إلى مقابرة جماعية تسع السودان كله.أعرف جيداً أن الضحايا يستشعرون العفو والصفح،كما يفكر آخرون كثيراً في الثأر والانتقام،كيف يقتصون من الجاني،فيهدرون دمه،شعره،صوته وما الانسان سوى اغنياته!
لكن فليعلم الضحايا والجناة معاً،أن ايقاعات المردوم والجراري والنقارة وغيرها التي اغتصبت في الحرب ليست ملكًا لقوات الدعم السريع أو الجيش، وليست أصواتًا للدماء التي سُفكت في كل شبر يحتله الجنجويد. هي أصوات الأرض، أصوات الرعاة والمزارعين والنساء اللائي غنين للفرح والشوق والحياة. ما حدث في حرب 15 أبريل وحروبنا السابقة،هو محاولة لاختطاف هذه الأصوات وتحويلها إلى أدوات موت.
محمد ودالسك
تكمن اساب هذه الورطة في:
١- أزمة الوعي التي تحول دون الاستفادة من فرص ربط النسيج الاجتماعي والتصدي لخطابات تأجيج الحرب.
٢- غياب دور المثقف الملهم الذي يقدم نقداً مستمرا لهذا المشكلات، وتقديم حلول واقعية من أجل، تحصيناً لهذا المجتمعات من أن تستخدم في كل ماراثون سياسي.
٣- عدم الإدراك بان هذا الموروث الشعبي ذو قيمة بالغة في تنمية أو دمار الوطن.
تحياتي ياود السك – ناني