أصدقاء دروب

من أطلال الجامعات إلى حلم القبول: مستقبل التعليم بين الغياب والمقاومة

كتبت/أ. تماضر بكري عبدالله

حين تلفظ الحرب أنفاسها الحارقة، لا يبقى سوى الركام يتحدث. صور القصف، الجدران المتفحمة، الكتب المحترقة، المقاعد المكسّرة… كلها تشهد أن العلم كان هنا ذات يوم، وأن في هذه الأرض مَن حلموا، كتبوا، ناقشوا، وبنوا أفكارًا لعالمٍ أفضل. لكن المشهد الكارثي الذي تركته الحروب في الجامعات لا ينتمي إلى الماضي وحده، بل ما زالت مآسيه تتردد في الأفق، تكسر قلوب المنتظرين وتختبر صبر الأمل.

نهضت مأساة الجامعات في السودان، وعلى رأسها جامعة الخرطوم، بوصفها الأكثر وجعًا، وكأن الدمار اختار أن يبدأ من أقدم الصروح لتكتب أولى فصول الألم الأكاديمي السوداني. فالمباني التي كانت تأوي المعرفة باتت أطلالًا، والمكتبات التي احتضنت الأبحاث أصبحت مجرد حُطامٍ يعبث به الريح. وفي ولاية الجزيرة، لا تختلف الصورة كثيرًا؛ جامعات كانت تنبض بالحياة باتت تنزف من الداخل، تقاتل لتبقي القليل من الهيبة، والقليل من الذاكرة.

لكن الخراب لم يختصر المشهد السوداني وحده. ففي العراق، تحوّلت جامعة الموصل إلى ركام على يد التنظيمات الإرهابية، وغدت المناهج محظورة والمعامل رمادًا. وفي سوريا، بكت جامعة حلب على مقاعدها التي مزّقتها الحرب، وتشرّد أساتذتها وطلبتها على حدٍّ سواء. أما جامعات أوكرانيا، فقد باتت اليوم صورة تقاوم في زواياها القصف والغزو، وهي تواصل تقديم التعليم في ملاجئ ومقار مؤقتة، خوفًا من موت العلم تحت الأنقاض.

خارج أسوار هذه الجامعات، تتوالى مشاهد الانتظار في عيون الطلبة الذين يتطلّعون إلى نتائج القبول، ويحلمون بمنح أو فرص للدراسة في الخارج. بعضهم يتساءل عن البدائل الإلكترونية التي لا تصلهم، وآخرون يبحثون عن قاعات جديدة لا تحمل رائحة الحريق. يتشتتون في الشتات، يحملون في حقائبهم صورًا باهتة لمقاعدهم الدراسية، ودفاتر لم تكتمل، وحكايات لأساتذة أُجبروا على الصمت أو الرحيل.

إن مأساة الجامعات بعد الحرب ليست مجرد انهيار مبانٍ، بل هي انهيار ذاكرة وطن، وانكسار الحلم في لحظة تاريخية لا تُنسى. لكنها أيضًا درسٌ في مقاومة لا يُستهان بها. فالجامعات، برغم الدمار، تملك روحًا عصيّة على الموت. التعليم لا يموت، بل يعود أكثر صلابة، تمامًا كما تعود الأشجار لتخترق الحجارة وتُزهر. في قلوب الطلبة، لا تزال المصابيح مشتعلة، وفي دفاترهم، تنبض الكلمات التي ترفض النسيان.

ولعلّ الجامعات، وإن خفَتت أنوارها، ستنهض. ستُعيد جمع أبنائها، وتُشعل قاعاتها بالدروس من جديد، لا بالحجارة وحدها، بل بالعزيمة، بالمعرفة، وبالوفاء لذاكرتها التي لا تزال حيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى