الفاشر .. الجرح الذي لم يجد من يضمده

بقلم: ابن عوف أحمد
لا أدري من أين أبدأ. النوم فارق جفوني منذ ليالٍ طويلة والعين التي كانت تتابع الأخبار صارت تشبه صحراء محترقة لا أستطيع أن أصف ما أراه وأتابعه من قبل الزملاء ولا أن أجد كلمات تعبر عن داخلي. كأن اللغة خانتني وكأن الحروف تخاف أن تقترب من هذا الوجع العظيم. ما حدث ويحدث في الفاشر ليس حربًا عادية، بل انكسار الروح أمام عالمٍ اختار الصمت، ومشهد مدينة تُؤكل وهي على قيد الحياة. أتابع المقاطع، أسمع الأصوات، أرى الوجوه المرهقة، الأطفال الهاربين من النار، النساء اللواتي يحملن رماد بيوتهن في أكياس صغيرة، والشيوخ الذين يودّعون آخر ما تبقى من العمر عند أطراف المدينة. كيف أكتب عن كل هذا؟ كيف أختصر عامين من الحصار وأربعة أشهر من الجوع في سطرٍ واحد؟
كانت الفاشر تصمد بصمتٍ نبيل مدينة محاصرة من كل الجهات، لا تصلها المساعدات، ولا تصل منها الأخبار إلا نادرة، كأنها منفى داخل الوطن بل من العالم أجمع. منذ عامين وهم يواجهون الجوع والمرض والحصار. منذ ست أشهر، كانوا يأكلون أعلاف الحيوانات ليبقوا على قيد الحياة، بينما العالم مشغول بتفاصيل أخرى، والقيادات تتنازع على المناصب لم يسمع أحد صوتهم. ربما لأن الصوت كان ضعيفًا، وربما لأن هناك من اشترى الصمت العالمي رغم ذلك كانت الفاشر تقاوم، حتى وهي وحدها، حتى والسماء فوقها مليئة بالطائرات، والأرض تحتها خالية من الأمان ثم جاءت الليلة التي لم ينم فيها أحد. ليلة المذابح، حين انفتحت أبواب الجحيم، وحين سالت الشوارع بالدم. الجميع شاهد المقاطع التي لا يمكن أن تُنسى: رجال ونساء يُساقون إلى الذبح، أطفال يصرخون ولا يجدون صدراً يضمهم، نساء يبحثن عن مأوى بين الخرائب. لم تكن معركة، بل كانت تصفية منظمة وابادة جماعية وتطهير عرقي جرائم إبادة مكتملة الأركان ، كأن الموت نفسه قرر أن يجرّب أقصى أشكاله. وبينما كانت الفاشر تُباد، كانت القنوات تتابع نشراتها المعتادة، وكأن الموت الذي هناك لا يستحق حتى خبراً عابراً.ثم جاء بيان البرهان ذاك البيان البارد الذي أطفأ آخر ما تبقّى من الأمل. قال إنه سحب قواته إلى مكان آمن، وترك المدنيين لمصيرهم. لم أصدق ما سمعت. كان صوته فارغاً من الشرف، ميتاً كالكلمات التي نُطقت دون روح. حينها فهمت أن الوطن صار بلا حارس، وأن كل شيء يُدار بالعجز واللامبالاة. القائد تخلّى عن جيشه، والسياسيون تخلّوا عن مدنهم، والمدينة تخلّت عنها السماء. والذين يفترض أن يكونوا صوت دارفور انشغلوا بالمناصب وبالمفاوضات والمكاسب الصغيرة على أطلال الكارثة. كأن السلطة عندهم أغلى من الدم، من يتابع المشهد يظن أن العالم قد أصيب بالعمى. لا صوت لإدانة، بيانات خجولة تصدر من هنا وهناك، كلمات منزوعة الدسم، تُقال لإبراء الذمة لا لإنقاذ الناس. ربما لأن الجغرافيا قاسية، وربما لأن خلف الكارثة من يمسك بالخيوط. إنها الإمارات تلك الدولة التي تموّل النار، وتغذّي الفوضى، وتراقب المشهد من بعيد بدمٍ بارد. كأنها وجدت في موت المدن وسيلة لفرض توازنها. كل شيء محسوب بدقة: أين تذهب الإمدادات، كيف تمر الطائرات وتهبط في مطار نيالا، من يعيش ومن يُقتل، ومن يُترك ليموت جوعاً. وما يحدث في الفاشر ليس إلا وجهًا من وجوه مشروعٍ أكبر يريد لوطنٍ كامل أن ينكسر، لأن سقوط المدن الصغيرة هو الطريق لسقوط الدولة كلها.
ولأن الدم لا يمكن أن يُخفى مهما تكاثف غبار الصمت، بدأت بعض الأصوات البعيدة تهمس بالحقيقة. كتب السناتور الأمريكي عن ولاية كونيتيكت – الذي يتابعه أكثر من مليون ومائة ألف شخص – على صفحته:
“هناك أدلة على أن قوات الدعم السريع المدعومة من الإمارات متورطة في جرائم قتل جماعي في مدينة الفاشر في دارفور. لماذا تسمح الولايات المتحدة للإمارات العربية المتحدة – التي نمولها عسكرياً – بمساعدة قوات الدعم السريع الوحشية في ارتكاب فظائع جماعية؟ وللعلم – الأمر لا يتعلق فقط بترامب – إدارة بايدن سمحت بحدوث هذا أيضًا. كانت كلماته كصفعة في وجه العالم، لكنها مرت مرور الريح.لم تُفتح لجنة تحقيق، ولم ولن يُوقف الدعم. وكأن العدالة صارت ترفاً، والدم السوداني لا يحرّك ضميراً. تلك الكلمات وحدها كانت أصدق من كل بيانات الإدانة الباهتة، لأنها قالت ما يحاول الجميع إنكاره: أن المأساة لم تكن فقط من صنيعة الجنجويد، بل من تمويلٍ وحمايةٍ وتواطؤٍ خارجي يمدّهم بالحياة والعتاد بينما يُترك المدنيون للموت
كل هذا يحدث في صمت، في غياب كامل لأي صوتٍ عالمي. المنظمات تكتب تقارير باردة، الدول تصدر بيانات متوازنة، وكأن الدم السوداني لا يستحق الغضب.
أحياناً أظن أن ما نعيشه ليس فقط مأساة سياسية، بل اختبار إلهي قاسٍ: أن تُترك وحدك في مواجهة الظلم، وأن يُخذلك القريب قبل الغريب، وأن ترى وطنك يُباع قطعةً قطعةً في سوق المصالح. ومع ذلك، يبقى في القلب يقين صغير، عنيد، يرفض أن يموت: أن العدالة لن تغيب إلى الأبد، وأن الله يرى، وأن دم الأبرياء لن يضيع هدراً. قد يطول الليل، وقد يُمحى كل شيء، لكن صوت الذين قُتلوا لن يصمت. سيبقى في الريح، في التراب، في الذاكرة، يطالب بالحق، يلعن الخذلان، ويذكّر الجميع أن ما حدث في الفاشر لم يكن قدراً، بل فعلاً من صنع البشر، وصمتٍ صنعه العالم، ووجعٍ لا شفاء له إلا بالعدل.



