على مدي 22 عاماً.. كيف جعلت السُلطة المركزية من إنسان «دارفور» وقوداً في صراع النفوذ والبقاء؟

كتب: النور عبدالله محمدين
منذ أكثر من عقدين، ظل إقليم دارفور غربي السودان عنواناً للألم الإنساني والسياسي، بالكاد يدور في حلقة مفرطة من العنف المسلح، والتشريد، والانقسامات الاجتماعية، وسط مشهد سياسي تتكرر فيه الأنماط نفسها من التهميش وإعادة الحروب وإدارة الأزمات بدلاً من حلها.
والحقيقة المؤلمة للصراع المعقد وعلي مدى (22) عاماً حيث تكشف القراءة المتأنية لتطورات الأوضاع في دارفور، أن السلطة المركزية في الخرطوم التي يتولي زمام امرها تيار الاسلام السياسي، الذي افسد جميع مناحي الحياة، لاتزال تلعب دوراً محورياً “خبيثاً” في تأجيج النزاع، إذ تتعامل مع الإقليم وكأنه رقعة في لعبة «شطرنج» تحرك فيها مليشات «الحركات المسلحة» ومليشيات «الجنجويد» وفق مصالحها، يحدث ذلك عن قصد بصورة مباشرة وفي حيناً آخر بصورة غير مباشرة بغرض تعميق الانقسامات وإشعال دوامة العنف من منطلق سياسة “فرق تسد”.
لم تكن الأزمة التي تتصاعد الان.. في دارفور وليدة حرب الخامس عشر من أبريل 2023م، بل هي نتيجة لتراكمات متعمدة تمتد جذورها لعقود من السياسات الخاطئة التي مارستها السلطة المركزية بالخرطوم، وهي ذات الممارسات التي قادت من قبل إلى إنفصال جنوب السودان عام 2011.
يشير التاريخ المرير الي ان إقليم دارفور شهد واحدة من اكبر وأعقد الأزمات الإنسانية، وخلال تلك السنوات دماء كثيرة سالت منذ إندلاع التمرد المسلح عام 2003م عندما بدأت الأزمة حين تمردت «الحركات» ضد الحكومة السودانية في المركز، تطالب بالمساواة وإنهاء التهميش، غير أن رد الحكومة آنذاك جاء عسكرياً، عبر تفويض مليشيات محلية تسمي ب«الجنجويد» التي تحولت لاحقاً إلى رأس الحربة في حملة اتسمت بالعنف المفرط ضد المدنيين تحت إشراف قيادة الجيش.
رغماً من توقيع إتفاقيات متعددة من أبوجا إلى الدوحة …الخ إلا أن جذور الأزمة ظلت قائمة فالاتفاقيات السابقة، ركزت على تقاسم السلطة والمناصب أكثر من تركيزها على بناء الثقة أو معالجة المظالم الاجتماعية والاقتصادية كما لم تتوفر الإرادة السياسية لتنفيذ بنود العدالة الانتقالية أو نزع سلاح المليشيات، بل ظلت السلطة المركزية بالخرطوم تتمادى في صنع المزيد من المليشيات التي تتخذ منها حلف بين الحين والاخر الامر الذي أفضي بوجود كم هائل من المليشيات باتت مهدد لإستقرار البلاد.
في حين، ساد الأمل بأن دارفور ستدخل مرحلة جديدة من المصالحة، عقب سقوط نظام البشير عام 2019، غير أن الصراع القبلي عاد بقوة، وتجددت الاشتباكات بوتيرة أكثر عنفاً، لتذكر الجميع بأن الماضي الأليم لم ينتهي بعد.
ومع إندلاع الحرب «العبثية» بين الجيش والدعم السريع في منتصف أبريل 2023م وكأنها جاءت لتكشف أن الأزمة في دارفور لم تبارح مكانها، بل أعيد إنتاجها في شكل جديد عندما جرت المحاولة الاولي لجر الصراع اثناء حرب 15 ابريل من العاصمة الخرطوم ونقلها عن قصد الي مدينة «الجنينة» بولاية غرب دارفور، التي ارتكبت فيها مجازر ماساوية عبر استدعاء الأدوات القديمة نفسها والتعبئات القبلية والعرقية بمكيدة مدبرة من قبل المركز طبقاً لمراقبين.
وفي خضم حرب منتصف ابريل جرت المحاولة الثانية لجر كل الصراع الي دارفور وبتكتيك أكثر “خبثا” فقد عادت السلطة المركزية توظيف أدوات الصراع القديمة بأسلوب مختلف حيث استخدمت فيها هذه المرة الخصوم، عبر استقطاب بعض الحركات المسلحة وإخراجها من حالة الحياد، للزج بها مجدداً في معركة بحسابات السلطة ليس إلا.
وتتفق قراءت الكثير من المتابعين للوضع القائم، ان إستعانة السلطة المركزية بحركات الكفاح المتحالفة لإخراج الدعم السريع وباستعادة السيطرة على ولايتي الجزيرة وسط السودان والعاصمة الخرطوم كانت ضمن مخطط لتحويل كل النزاع الي دارفور مرة أخري، يحدث ذلك مع رفض لكل الحلول المُمكنة والمبادرات الداعية الي توصل لسلام ابتداء من منبر جدة مروراً بمبادرة حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور الذي بادر بإعلان الفاشر مدينة للسلام وأخلاء كل القوات المتحاربة من الطرفين بعد ان وجدت تجاوباً كبير، ولكن مع اصرار الأطراف المتحاربة انتهي الامر بسقوط مدينة الفاشر كانت النتيجة ايضاً مجازر واحداث مأساوية.
هكذا أعادت السلطة المركزية الاقليم إلى واجهة الأحداث، إذ تحولت مناطقه مجدداً إلى ساحة عنف وجميع من يتقاتل فيها هم ابناء دارفور، هذ المشهد أعاد إلى الأذهان مشاهد الصراع القديم مما ادي إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية والأمنية، مرة اخري ليجد المواطن نفسه عالقاً بين أطراف تتنازع النفوذ، فيما تستمر معاناته تحت عبء الحرب والتشريد وفقدان الأمان الذي يدار من المركز.
ودارفور اليوم تُعد واحدة من أكبر مناطق الكوارث الإنسانية علي مستوي القارة الإفريقية، الان.. ملايين النازحين يعيشون بين معسكرات اللجوء وغياب الأمل مع استمرار الحرب، بينما تتفكك البنية الاجتماعية التي شكلت نسيج الإقليم لعقود بالإضافة الي الانقسامات الإثنية التي أضعفت الثقة بين المكونات المحلية، وأنتجت ذاكرة جمعية مثقلة بالخوف والثأر.
بينما يظل مستقبل إستقرار دارفور “رهين” ببناء دولة سودانية تحترم التعدد وتقف في مسافة واحدة مع الجميع، وبالضرورة حسم تعدد ظاهرة المليشيات وبناء مؤسسات محترمة وجيش موحد هذا هو ما يعيد الثقة لإنسان الإقليم المنكوب، بعد سنوات طويلة من الحروب والانقسامات، فما عادت الصراعات المسلحة مستمرة بل افرزت واقعاً هشاً، وان ذات المؤسسة العسكرية التي من واجبها أن تحمي هي أحد أبرز صُناع هذا الواقع المرير من خلال تبنيها لنهج إنتاج المليشيات وإفتعال الحروب، الأمر الذي أدخل البلاد في دائرة عنف متكررة لتظل المؤسسة العسكرية بوضعها الراهن هي المليشيا الأكبر مما صنعت يداها.
وبالمقابل ان وجود جيش وطني موحد امر ضروري ومهم أكثر من أي وقت قد مضي، بل يشكل الخطوة الأولى لاستعادة الثقة، ومن ثم تليه مرحلة العدالة الانتقالية التي تحاسب المسؤولين عن الانتهاكات وتمنح الضحايا حقهم في الإنصاف، دون هذه الخطوات، ستظل دارفور عالقة في ماضيها، وستبقى السلطة المركزية تمارس ذات الدور الذي ظل يؤجج الحروب لعقود.
هذه القراءة .. المختصرة تُبرز مأساة دارفور كجزء من دائرة متكررة منذ الالفينيات تلعب فيها سلطة المركز التي يتولي زمام امرها تيار الاسلام السياسي، دوراً محورياً في تأجيج النزاع بسياسة “فرق تسد” الذي قاد الإقليم للدخول في دوامة عنف، جعلت من ان يصبح المواطن الدارفوري ضحية علي الدوام لمنظومة مركز متسلط “فاسد” يرى فيه وقوداً للصراع، ومع ذلك، لا يزال الأمل قائمًا في أن تنجح الجهود الإقليمية والدولية في وقف هذا النزيف وإعادة بناء السلام الاجتماعي.



