مليشيات الجيش: وجه آخر للإرهاب في السودان

عزيز الدودو
في مشهدٍ مأساوي يتكرر بلا توقف، يسقط السودانيون ضحايا لوحشية لا تميز بين طفلٍ رضيع وامرأة عجوز، بين منزلٍ آمن وسوقٍ عام. مجزرة الحمادي ليست سوى حلقة في مسلسل دموي طويل، تُنسج خيوطه بأيدي ميليشيات متطرفة تتحالف مع الجيش السوداني، وتستبيح الدماء تحت غطاء “الوطنية” الزائفة. فإلى متى يظل الشعب السوداني غافلاً عن الخطر الداهم الذي يهدد وجوده؟
لقد تجاوزت جرائم هذه المليشيات كل حدود الإنسانية، بل وتحدت كل شرائع الأخلاق والقانون. فما حدث في الحمادي ليس “خطأً عابراً” أو “تصرفاً فردياً”، بل هو جريمة ممنهجة تعكس سياسةً عنصريةً تقوم على التطهير العرقي. كيف يقبل عاقل أن يتحول الجيش – المفترض أنه حامي الوطن – إلى أداة قتلٍ للمواطنين؟ كيف نسمح لميليشيات قبلية متطرفة أن تلبس زي الجيش الوطني، ثم تذبح الأطفال أمام أمهاتهم، وتحرق القرى على ركابها، بينما ترفع شعارات “الدفاع عن السيادة”؟
الأمر لا يتعلق بـ”انحرافات” يمكن تبريرها بحربٍ أو أزمة، بل بانهيار كامل لفكرة الدولة ذاتها. فتاريخ السودان، رغم كل حقبه الدموية، لم يشهد هذا المستوى من الوحشية الممنهجة. حتى الاستعمار الذي احتل أرضنا لم يسوِّغ قتل الرضع بحجة “الهوية العرقية”. اليوم، تُستخدم موارد الدولة – من طائرات وأسلحة – لضرب مواطنيها في الأسواق والمنازل، بينما تُختطف الأبرياء وتعذب في معتقلات سرية تُدار بمزاج الميليشيات الإخوانية الإرهابية.
والأخطر من الجرائم نفسها هو الصمت المجتمعي والدولي عليها. فمن قصف الأسواق في غرب السودان، إلى مجازر علوبة والكنابي في ولاية الجزيرة، وصولاً إلى الاعتقالات التعسفية والتصفيات العرقية في الخرطوم والجزيرة، ثمة نمطٌ واضح: إبادةٌ بطيئةٌ تتم تحت سمع السلطة وبصرها. بل والأكثر إهانةً للعقل أن تُقدم هذه الجرائم على أنها “انتصارات” ضد “المتمردين”، بينما الضحايا هم مدنيون لم يحملوا سوى هوياتهم الإثنية أو آرائهم السياسية.
إن الاستمرار في التغاضي عن هذه الجرائم هو انتحار جماعي. فالميليشيات القبلية الداعشية المسلحة – من “كتائب البراء” إلى “الخلية الأمنية” – لم تعد مجرد “أذرع للجيش”، بل تحولت إلى دولة داخل الدولة، تفرض إرهابها وتعيد إنتاج نفسها عبر العنف. وإذا لم يُوقَف هذا المسار الآن، فسيأتي اليوم الذي لن يجد فيه السودانيون مكاناً آمناً لا من “الجيش” ولا من “الميليشيات”، لأن الفرق بينهما قد تلاشى.
اليوم، المطلوب ليس ندوات استنكار أو بيانات دبلوماسية، بل موقفٌ واضحٌ من كل قوى المجتمع: إعلاميون، مثقفون، أحزاب، منظمات حقوقية. يجب كسر حاجز الخوف وفضح كل الجرائم ولو كلفنا الأمر، لأن السكوت يعني المشاركة في الإجرام. آن الأوان ليعي السودانيون أن المعركة لم تعد بين “جيش” و”متمردين”، بل بين مشروع إبادة وطنية وبين بقاء السودان نفسه. فالوطن لا يُدافع عنه بذبح أهله.