كيف تعمل أطراف الحرب على تقسيم السودان؟

أحمد حمدان
في البدء نشير إلى أن ما فشل فيه “البرهان وحميدتي” بفض الاعتصام والانقلاب على حكومة الفترة الانتقالية، حققاه بالحرب، حيث تحول بعض ممن كانوا يعتبرون بأنهم “أيقونات الشارع” المُطالب بالحرية والسلام والعدالة، إلى “بندقية” ـ بالسنان أو اللسان ـ في مشروع قائدي الجيش والدعم السريع.
كان هدف البرهان وحميدتي واضحا منذ البداية، لم يحيدا عنه أبدا حيث عملا على استغلال كل فرصة سنحت لهما للتقرب من حلم الانفراد بالسلطة، فضا معاً اعتصام المحتجين أمام القيادة العامة للجيش في 30 يونيو 2019، ثم انقلبا معًا على حكومة الفترة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في 25 أكتوبر 2021، وحتى الحرب التي اندلعت بينهما لا هي من أجل “الكرامة ولا الديمقراطية”.. تلك كانت شعارات رنانة لدغدغة المشاعر وحشد البسطاء وراء أجندة الحرب، كما قلتُ ذلك في مقالة نشرتها بعد شهرين من اندلاع الحرب.
لقد وقعت الحرب بعد أن اختلف “اللصان” حول من سيكون على رأس السلطة المسروقة من الشعب، فـ”لا يمكن أن يكون هنالك انقلاب برأسين” كما قال الأستاذ الحاج وراق، صاحب “زرقاء اليمامية” إن جاز الوصف.
طالت الحرب وخلفت ماسي تلين لها الأحجار، إلا دعاة الحرب والجنرالين فقلوبهم ما زالت معلقة في الهدف بعيد المنال “السلطة” ولا يمكن لأحد منهم أن يتنازل عن حُلمه لأجل السودانيين الذين أصبحوا بلا دار ولا طعام ولا حتى كرامة. ومن لا تلفته هذه الأوجاع لن يكون معنيا بتقسيم البلاد لأجل الظفر بما توقف عنده حدود تفكيره. وهيهات.
مؤشرات التقسيم
هكذا إذاً وصلنا إلى محطة سلطتين في بلد واحدة، وهذا معلوم بالضرورة، وكانت مؤشراته واضحة منذ البدايات الأولى لاندلاع الحرب، ولذلك أجد نفسي في حيرة من أمر هؤلاء وأولئك الذين استيقظوا فجأة على هذه الحقيقة عقب إعلان قوات الدعم السريع وحلفائها عزمهم تشكيل “مركز سلطة” جديد بعدما تعذر استيعابهم في المركز القديم المحتكر بواسطة قادة الجيش.
لقد طفق “هؤلاء وأولئك” يحذرون من تقسيم السودان عقب توقيع بعض القوى السودانية لما عُرف بـ”الميثاق التأسيسي” في نيروبي 21 فبراير المنصرم، وكأن مؤشرات التقسيم قد بدأت مع هذه الخطوة، مع أنها – في تقديري ـــ ردة لفعل مُمارس منذ بداية الحرب، ومن الأفضل مواجهة الفعل لا ردته اللهم إلا إذا أردنا الاستمرار في سياسة الهروب إلى الأمام وممارسة التضليل وتغبيش الوعي لصرف الأنظار عن حقيقة الأزمة.
وبما أن الصراع بالأساس كان على السلطة، فقد رفض قادة الجيش الجنوح إلى السلام عبر التفاوض مع قوات الدعم السريع، لأن هذا الطريق كان يعني بالضرورة تغيير معادلة السلطة والثروة، وربما يجعل القادمين الجُدد على قمة الهرم أو مناصفة الجلوس عليه، بعد ارتخاء قبضة المحتكرين القُدامى على المفاصل، لذلك ما كان من خيار غير المراوغة مع دعوات التفاوض ريثما تتغير المعادلة العسكرية على الأرض، ويتم إخضاع هؤلاء “المتمردون” بالقوة للنظام الذي شقوا عليه عصا الطاعة، وبالعدم دفعهم لتأسيس مركز سلطة بعيدا عن هذا الذي دونه خرط القتاد.
كان قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، ينتظر بفارق الصبر ذهاب قوات الدعم السريع في اتجاه تأسيس سلطتها بعيدا عن مركزه، حتى حينما أعلنت الدعوات رسميا لإعلان الخطوات التأسيسية للحكومة الموازية، خرج البرهان في بورتسودان مهاجما القوى المدنية التي أعلنت توا رفضها تشكيل حكومة جديدة، صابا جام غضبه على “حمدوك” قائلًا إنه”لن يعود إلى السلطة مجددا، ولن يقبل الشعب أن يُفرض عليه من الخارج”، دون أن يأتي بذكر على الحكومة الموازية.
وكأن البرهان كان يريد من حمدوك ومجموعة تحالف “صمود” أن تذهب لمعاونة “حميدتي” على تأسيس سلطته الجديدة، لا أن تبقى هنا لتزاحمه من جديد، وتذكره من حين لآخر بعدم شرعية سلطته.
تعديلات دستورية وانتخابات
وبينما كانت مجموعة تحالف “تأسيس” تجتمع في نيروبي لتوقيع الإعلان السياسي لحكومتها الجديدة، أقرت حكومة بورتسودان تعديلات على الوثيقة الدستورية عززت قبضة الجيش على السلطة، ومددت حكم البرهان لمدة 39 شهرا مقبلة، كما منحت مجلس السيادة الذي يرأسه، سلطات واسعة بينها تعيين وعزل رئيس الوزراء وتعيين وإعفاء حكام الولايات.
كما منح التعديل الدستوري مجلس السيادة الذي يرأسه البرهان حق تعيين وإعفاء رئيس القضاء ونوابه وأعضاء المحكمة الدستورية بعد ترشيحهم من مجلس القضاء العالي، على أن يعينهم مجلس السيادة إلى حين تشكيل مجلس القضاء.
وبينما تبدو ملامح مستقبل سلطة “مجموعة تأسيس” غامضة وغير واضحة المعالم؛ نظرا لحجم الشعارات المطروحة وتعقيدات الأوضاع العسكرية في دارفور وكردفان، فإن سلطة بورتسودان بات طريقها واضحا لإقامة فترة انتقالية ترتب سريعًا لعقد انتخابات في حدود 5 ولايات وأجزاء من 4 أخرى، بينما تُهمل بقية أجزاء البلاد فيما يشبه الطرد القسري من “رحمة السودان”. وستكون هذه الأجزاء المطرودة عبارة عن مناطق نزاعات قد تستمر فيها الحرب لسنوات.
بالطبع هذا الطرد لن يبدأ بعد الانتخابات المتوقعة، وإنما كان قد بدأ فعليا منذ فترات سابقة من عمر هذه الحرب، وذلك حينما تخلت حكومة الجيش عن المواطنين في دارفور وكردفان، واعتبرتهم جزءًا من قوات الدعم السريع، وحرمتهم من خدمات الدولة. فحتى بعد أن تطوع بعض المعلمين في مدينة نيالا جنوب دارفور بفتح المدارس لاستئناف العملية التعليمية، عاقبهم الوالي المكلف من الجيش بشير مرسال، وجمد رواتبهم بعدما نشر أسماءهم في كشوفات باعتبارهم متعاونين مع قوات الدعم السريع. والأمر انسحب كذلك على بقية الخدمات التي كان يتحتم على من يحتكر سيادة السودان أن يقدمها لأي مواطن بغض النظر عن أين يقيم داخل حدود البلاد، ولعل ذلك ما وفرّ أرضية صلبة صعدت عليها مجموعة “تحالف تأسيس” لتشكيل سلطتها، وربما تكون سببًا لحصولها لاحقًا على الاعتراف الخارجي.
سلطة حرب
ومع ذلك فإن المؤشرات تشير إلى أن الحكومة الموازية ستكون “سلطة حرب” في المقام الأول، بينما الخدمات سيكتشف المواطن أنها كانت مجرد “قميص عثمان”. والحقيقة أن المواطن والخدمات هما آخر ما يمكن أن تخطر على بال أطراف الحرب حيث قلوبهم معلقة بالسلطة، ولا يرون بدًا من جعل المواطن “حطبًا” في نيرانها المشتعلة للقضاء على الآخر.
ستؤسس “الدعم السريع” وحلفائها مركز سلطة جديد، وستسخره لخدمة أجندة الحرب بعدما تحصل على السلاح المطلوب، وفي المقابل سيمضي الجيش في ذات الأمر مستخدما ما برع فيه طوال تاريخه وهو الفتنة المجتمعية ليحول دارفور وكردفان إلى بؤرة صراع عرقي، مستخدما في ذلك سلاح المليشيات التي صنعها في وقت سابق في دارفور للقتال معه تحت اسم “الكسابة” والتي تحولت في هذه الحرب للقتال مع قوات الدعم السريع، وعرفت بـ”الشفشافة” وغير مستبعد أن تعود لاحقًا للقتال مع الجيش ليغزوا بها مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، وقد بدأت طلائع هذه القوات تتجمع الآن في غرب كردفان بالتنسيق مع قادة متحرك الصياد، وفق ما رشح من معلومات.
بعض هذه القوات المنسحبة من العاصمة الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض وشمال كردفان، اشتبكت الأسبوع الماضي مع قوات الدعم السريع المتمركزة في مدينة “أبو زبد” غرب كردفان، وكادت أن تتحول إلى صراع عرقي بين بعض أفخاذ قبيلة المسيرية، ورغم احتواء الأزمة، إلا أن الوميض ما زال تحت الرماد.
كل المؤشرات تذهب في اتجاه أن البلاد مقبلة على فصل جديد من الصراع لن تتوقف إفرازاته عند التقسيم فحسب، بل ربما تشتعل بالفعل الحرب الأهلية التي ظل الجميع يحذر منها، مسنودة بسلطتين يجدان الدعم الخارجي المطلوب لتأجيج النيران، وذلك في ظل استسلام المثقفين وقادة الرأي العام الذين ضَعِفوا أمام التحيزات الضيقة والمرارات الشخصية وتحولوا إلى تُبع يسيرون خلف أطراف الحرب يرددون دعايتهم بشكل محير.