أصدقاء دروب

بيان نقابة الصحفيين السودانيين حول مجزرة الكنابي “سقوط مهني وأزمة أخلاقية”

أجوك عوض الله جابو

لِكون ميلادها كان تتويجًا للحلم الكبير بالانعتاق والتحرر من براثن القهر والقمع، وتكوين كيانٍ جامعٍ للصحفيين ـ ولو بالحد الأدنى ـ بعد ثلاثِ عقودٍ عجافٍ خلت من الشتات والمعاناة تحت وطأة حكم النظام البائد، الذي سام صاحبة الجلالة في عهده سوطَ عذابٍ من التنكيل، والاعتقالاتِ التعسفية، والسجن، والكبت، والتكميم.

كان المأمولُ والمتوقَّعُ بميلاد نقابة الصحفيين السودانيين إعلانَ عهدٍ جديدٍ من الممارسة الصحفية المهنية الأمينة والمسؤولة في ظلِّ أجواءٍ من الحرية والاستقلالية، لِجهةِ أنَّ السودان يمرُّ بمنعطفٍ يُعَدُّ الأخطرَ على الإطلاق في تاريخه، ممَّا جعل الحاجةَ أكثرَ إلحاحًا للدقةِ والحيادِ من جهة، ولأنَّ مهنيةَ الصحافةِ السودانيةِ العاليةِ جعلتْ منها عَلمًا على رأسه نارٌ، بعد أن فرضتْ نفسها على الساحة الإعلامية كفاءةً وجدارةً، وتبوَّأتْ أعلى المراتب والقمم في المؤسسات الإعلامية الصحفية العالمية والإقليمية.

“غرق في شبر ميه”

لكن يبدو أن النقابة متأثرة بعهد الهيمنة والمحاباة  فبيانها حول مجزرة الكنابي بتاريخ15يناير المنصرم عقب إنسحاب قوات الدعم السريع و دخول الجيش وكتائبه المتطرف سيظل وصمة عار في جبينها.البيان لم يكن علي مستوي المسؤولية فقد اقفل الإشارة الواضحة الي جرائم بشعة بحق سكان الكنابي واللاجئين الجنوبيين العالقيين هناك.عمليات القتل والذبح الوحشية التي إرتكبت بدم بارد وسط هتافات وتهليل رجال وأطفال وزغاريد النساء بدعوي التعاون مع الدعم السريع تم التغطية عليها بعبارات فضفاضة و اتهامات عامة لا ترقي لمستوي الفظائع التي وثقتها مقاطع الفيديو.

بعد أن حالتِ الظروفُ الطاحنةُ دونَ خروجِهم، تمت إستابحتهم بتهمة التعاون مع الدعم السريع، واعتبارِ تواجدِهم في المنطقةِ بالرغمِ من دخولِ الدعمِ السريعِ دليلَ إدانةٍ بحقهم، إذ يقولُ قائلُهم في تساؤلاتٍ اعتُبِرتْ قمةَ العبقريةِ في التحليلِ والقراءةِ من كبارِ الصحفيين: (أهلُ المنطقةِ خرجوا منها، هم حارسين شنو؟!).

نعم، الكثيرُ من أهلِ الجزيرةِ خرجوا منها عقبَ دخولِ الدعمِ السريعِ المنطقة، ولكنَّ مَن لا يملكون المالَ للفرارِ بجلودِهم، بحكمِ أنهم يعيشون في المنطقةِ بسطاءَ يعملون بالزراعة، آثروا البقاءَ مكرهينَ، وكانوا يظنون أنهم بين إخوانهم الذين لجؤوا إليهم وكانوا معهم في السراءِ والضراء. ومتى كان الجنوبيون بعيدين عن تفاصيلِ الكثيرِ من المناطقِ في السودان؟! بل فقدَ الكثيرُ من أبناءِ جنوبِ السودان أرواحَهم في ساحةِ الاعتصامِ عقبَ فضِّها3يونيو2019م، بعد أن آثروا مشاركةَ ومؤازرةَ إخوانِهم في عُرسِ الحريةِ والانعتاقِ من براثنِ النظامِ البائد، الذي اضطرَّهم للخروجِ من خارطةِ السودانِ الكبير. يومها لم نسمعْ أيَّ تساؤلاتٍ من شاكلة (ما الذي أتى بهم إلى ساحةِ الاعتصام؟!) والتعاونُ الحقيقيُّ لا ينتظرُ دخولَ الجيشِ؛ لأنَّه يملكُ مقوماتِ المغادرةِ.

بعضُ المناطقِ في الجزيرة نفسها لم يستطعْ أهلُها مغادرتَها، فخاطبوا قياداتِ الدعمِ السريع، وعقدوا معها اتفاقًا، والتزمت لهم بتقديمِ الخدمات، وبعضُهم اتقاءً للشرِّ استقبلوا قواتُ الدعم، وذبحتْ لهم الذبائح، في وقتٍ قررَ الجيشُ الانسحابَ للنجاةِ بنفسِه تحت جنحِ الليل، وتركَ المواطنينَ لمواجهةِ مصيرِهم. (ما لكم كيف تحكمون؟!)

نعم، لم يغادروا السودانَ بحكمِ ظروفِهم، لكنَّ هناك سودانيين عبروا حدودَ ولايةِ النيلِ الأبيضِ جنوبًا إلى الرنك، وتمَّ استقبالُهم، بل إنَّ جمهوريةَ جنوبِ السودان استقبلتْ عناصرَ الجيشِ السودانيِّ الذين ولَّوا يومَ الزحفِ من مواجهةِ الدعمِ السريع، بالرغمِ من أنَّ الذاكرةَ الجمعيةَ في جنوبِ السودان لا تحتفظُ للجيشِ السودانيِّ إلا بمشاهدِ القتلِ الجماعيِّ والاغتصابات، لكن كلَّ النُّبْلِ في كظم الغيط مع القدرة علي إنفاذه.فاذا كان جمهورية جنوب السودان تؤيد التعاون مع الدعم السريع لم يكن تسليم تلك العناصر الي قوات الدعم السريع بالأمر الخطير.

سقوط داو

نقابةُ الصحفيين وجدتْ نفسها في موقفٍ لا تُحسدُ عليه.لطالما دأبتْ على إصدار بياناتٍ مغلظةٍ شديدةِ اللهجةِ عقبَ أيِّ انتهاكٍ لقواتِ الدعمِ السريع،لكن أمام مجزرة الكنابي التي مثلت قمة البشاعة في إنتهاك الكرامة الإنسانية عجزت النقابة عن تسمية الأمور بمسمياتها فجاء بيانها سقطة مهنية مريعة، بدلا من الأشارة المباشرة للجناة إعتمدت علي الصياغة المبهمة وكأن فاعل المجزرة شبح لا يعرف .هذا التجاهل الصارخ للحقائق رغم الأدلة المصورة واعتراف الجيش نفسه بوقوع تجاوزات يكشف عن خلل عميق في الالتزام بالمهنية و المصداقية إذ يُعدُّ بيانُها حول مجزرةِ الكنابي طعنةً نجلاءَ في خاصرةِ المهنيةِ الصحفيةِ، لأنَّها لم تأتِ من ناقصٍ، بل مِمَّن يُعدُّون فطاحلةً وقياداتٍ لمدارسَ صحفيةٍ مرموقةٍ لها وزنُها المعتبرُ في معتركِ المهنيةِ والتحريرِ الصحفي.

كاثولوكيين أكثر من البابا:

رغم كل الأدلة الدامغة بما فيها إعتراف الجيش نفسه بوقوع تجاوزات أبت النقابة إلا أن تصدر بيانا مشوها للحقيقة في محاولة يائسة لغض الطرف عن الجريمة. فهي لم تفشل فقط في الإجابة عن الأسئلة الجوهرية للخبر الصحفي بل تواطئة ضمنيا مع الجناة بطمس الحقائق. كان المطلوب منها نقل الوقائع بوضوح وإنصاف لا تمرير بيان هزيل يحاول إرضاء طرف بعينه علي حساب الضحايا. ما يزيد من خطورة هذا الإنحياز أن النقابة لم تدرك بأنها بهذه الصيغة تمنح الشرعية للعنف و تجعل مشاهد الذبح والتنكيل تبدو إعتادية .أنها تعيد إنتاج عقلية القطيع الذي عاني منه السودان طويلا حيث تلتقي الأطراف المتناقضة في الإصطفاف الإعمي علي أسس أثنية بحتة.

وبعيدا عن ذلك دعت النقابة للتوقف عن نشر و تداول مقاطع الفيديو التي توثق هذه الجرائم لما لها ما آثار خطيرة في تأجيج خطاب الكراهية وإذكاء الصراعات مما يهدد بدفع البلاد الي هاوية حرب أهلية طاحنة وفقا لزعمها.

والنقابة بحسب حكمة البصيرة أم حمد تدعوا لخياطة الجرح المتعفن أصلا دون تنظيفه. والمرآة لا تفعل شيئا سوي عكس الصورة القبيحة.تلك لا شك كلمة حق اريد بها باطل لإخفاء الأدلة.وهذا لجد مؤسف.

مشوار الخنوع والتطويع  يبدأ بخطوة:

وبحسب أحاديث أروقة الصحافة ؛مع تزايد الاصوات داخل النقابة نفسها الرافضة لهذا النهج بدأت تتكشف إنقسامات داخلية.حيث أبدي بعض الاعضاء إستيلاءهم من عدم الحياد في توصيف الإنتهاكات من طرفي الحرب هناك حديث متزايد عن أن النقيب قام شخصيا بحذف اي اشارة للجيش و كتائب الإسلاميين من البيان الذي كان يفترض أن يصدر حول انتهاكات الجيش في ود مدني هذه الأزمة الداخلية قد تكون بداية لتصدع أكبر داخل النقابة نفسها واي كانت الخلاصة فأن الأمر لا يعنينا كثيرا لكونه أمرا داخليا.

مؤكد أن موقف نقابة الصحفيين من مجزرة الكنابي ليس مجرد بيان سيئ الصياغة بل هو دليل علي أزمة أعمق تتعلق بإستقلالية المؤسسة الإعلامية و إلتزامها بالمهنية في بلد يعيش صراعا من أجل الحقيقة و العدالة،يصبح السكوت عن الجريمة جريمة أخري والإنحياز للمجرمين سقوطا لا يغتفر .فهل تستعيد النقابة دورها أم تبقي شاهد زور علي المذابح ؟

ختامًا:

التحيةُ بإجلالٍ لكلِّ الزملاءِ الصحفيين االشرفاءِ الأحرارِممن رفض بيان النقابة و تحية خاصة لكل من الزملاء المشار إليهم ادناه فبالرغم من أنهم ضمن مجلس النقابة يسري عليهم ما يسري علي غيرهم من المكتب التنفيذي فقد إختاروا الانحيازَ إلى ضمائرِهم في إطار استقلاليتهم.لاسيما حرصهم علي ضرورة التفريق  بين موقفهم الملزم ضمن مجلس النقابة و بين موقفهم المهني كصحفيين  رفضوا تلوثَ سجلِّهم الناصعِ بالتأمينِ صمتًا على البيان، ولم يُخيِّبوا الظنَّ بهم. فالساكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرس.

كلُّ التقديرِ لهم وقد صاغوا بيانًا توضيحيًّا مستقلًّا، تبرؤوا فيه من البيانِ الوصمة، وهذا الموقفُ المشرِّفُ سيظلُّ إكليلًا على تاريخِهم الصحفيِّ المحترم، وهم:

1- خالد فتحي

2- سارة تاج السر

3- مشاعر دراج

مرفقات في اول تعليق

1-بيان نقابة الصحفيين حول مجزرة الكنابي.

2-بيان توضيحي بتوقيع الزملاء المشار إليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى