“مدني” السودانية تُكافِحُ لاسترداد جمالها وسط الظلام

مدني – دروب
بعدما خرجت من قتال مدمر لعام كامل، تُكافِحُ مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، تحت جنح الظلام لاسترداد جمالها المفقود، وتعيد اكتشاف نفسها كمهد للثقافة والإبداع بين مخالفات الحرب.
لم يتبق من جمال ود مدني غير جملة راسخة في ذاكرة السودانيين “مدني الجمال”.
ومع صمود لافتة في مدخل المدينة مكتوباً عليها “ابتسم أنت في مدني” عاد السكان على وقع البكاء ودموع الفرح، في مشاهد تروي سعادتهم بمعانقة مجدداً، رغم ما لحق بها من دمار.
مضى شهر على استعادة الجيش السيطرة على ود مدني، وما يزال التيار الكهربائي يواصل الانقطاع، مما حجب جمال المدينة المطلة على نهر النيل الأزرق، ولياليها الثقافية والإبداعية التي عرفت بها قبل محنة الحرب.
ومع غياب الكهرباء يجتهد المواطنون العائدون في تسيير شؤونهم وسط مصاعب كبيرة تلامس حياتهم اليومية، لكنها أفضل حالاً من واقع النزوح القاسي حسبما يراه أحمد الطيب، أحد سكان ود مدني الذي تحدث لـ”دروب”.
قال الطيب إن الحياة في مدينة ود مدني تفتقد أعمدتها الأساسية، إذ أثر غياب التيار الكهربائي على إمداد مياه الشرب الذي يصل بشكل متقطع لمرتين في الأسبوع لبعض الأحياء السكنية، كذلك أعاق عمل المشافي، وتوقف مطاحن الذرة.
مساحات مضيئة
ولم يستسلم سكان ود مدني للواقع الصعب، فلجأ البعض إلى الطاقة الشمسية، والمولدات الكهربائية لصناعة مساحات مضيئة في بعض أنحاء المدنية خاصة الأسواق والشوارع الحيوية.
في منتصف يناير الماضي، استعادة الجيش والفصائل العسكرية المتحالفة معه، السيطرة على ود مدني بعد مضي نحو عام على اجتياحها من قبل قوات الدعم السريع، وعلى إثر ذلك عاد آلاف النازحين طواعية إلى منازلهم.
ووجد المواطنون العائدون الحرب دمرت كل شيء جميل تقريباً في ود مدني، كما ضربت المرافق الخدمية مثل خطوط الكهرباء والمياه، بينما تحولت شواطئها المضيئة، ويملأها صخب الزوار والسياح في السابق، إلى بقاع مهجورة يكسوها الحزن والظلام.
وفي ظل واقع قاتم تحاول كوثر وهي إحدى السيدات العائدات إلى ود مدني، صناعة الفرح في محيط منزلها الذي لم يتبق منه شيء غير جدران متأثرة بلهيب المعارك العسكرية، بعد نهب كامل محتوياته.
وتحرص هذه السيدة التي تحدثت لـ”دروب” على إقامة طقوسها المعهودة بشرب القهوة ليلاً، مستعينة بمصباح خلوي لكسر قسوة الظلام، وتتسامر مع أسرتها لتناسي صدمة الدمار، وعلى أمل عودة حياتهم إلى سابق عهدها.
تَغَيَّرَ الملامح
وكان عام من الحرب في ود مدني كفيل بتغير ملامح المدينة التي فقد الكثير، لكن كوثر وإخوتها الذين عانقوا منازلهم مجدداً متفائلين بعودتها إلى سابق عهدها.
وتستند ود مدني على إرث ثقافي وجمالي فهي مهد الإبداع السوداني، وكانت محطة ميلاد الأغنية السودانية في العام 1918م، أي قبل العاصمة القومية أم درمان التي عرفت الغناء 1920″، وفق المؤرخ خالد بحيري الذي تحدث لـ”دروب”.
ووفق بحيري، فإن ود مدني أنجبت الشاعر “علي المساح” رائد غناء الحقيقة في السودان، بجانب العديد من المطربين بينهم ثنائي الجزيرة، أبو عركي البخيت، الخير عثمان، عصام محمد نور، محمد سليمان الشبلي وأحمد بابكر ورمضان حسن وطه بشير وآخرين.
ومن السياسيين الذين ينحدرون الزعيم إسماعيل الأزهري، والرئيس الأسبق جعفر نميري، والشريف حسين الهندي وآخرين.
وتكافح ود مدني تحت ظروف صعبة للعودة إلى صخبها الإبداعي ونضارتها، مستلهمة قدرتها على إنجاب الجمال والمبدعين والمفكرين، الذين يستطيعون هزيمة الظلام ونثر الضوء من جديد.