المواطنة المتساوية

عزيز الدودو
ما أن تذكر الأزمة السودانية حتى تعود إلى الواجهة تلك الإشكالية التاريخية الخطيرة، ذلك الجرح النازف الذي لم يندمل بعد. إنها سردية تقسيم المجتمع إلى “أصليين” و”دخلاء”، تلك الثنائية المسمومة التي لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على حاضر السودان ومستقبله.
هذه السردية لم تظهر من فراغ، بل هي إرث استعماري مباشر، رسمته السياسات البريطانية بيد باردة، انطلاقاً من مبدأ “فرّق تسد” الشهير. لقد صنع الاستعمار هذه التقسيمات المصطنعة وزرع بذور صراع هو في جوهره حديث النشأة. فما يُصوّر على أنه صراع عرقي أزلي هو في حقيقته بناء تاريخي تم ترسيخه عبر سياسات ممنهجة، تحوّل لاحقاً إلى أداة في يد النخب لتبرير التهميش والإقصاء.
في هذا المشهد الملتهب، يثير حديث الفاضل منصور مبدأً أساسياً نغفله غالباً: لا يمكن بناء دولة حديثة على أساس التمييز بين مواطنيها. فالدولة العادلة هي التي تتعامل مع جميع أبنائها كسكان أصليين، متساوين في الكرامة الإنسانية والمواطنة الكاملة، بغض النظر عن أصولهم أو انتماءاتهم.
إن التمسك بخطاب “الأصالة” كمعيار وحيد للانتماء يحوّل الوطن من فضاء جامع إلى دوائر مغلقة من المحاصصات والامتيازات، ويُفرغ مفهوم المواطنة من مضمونها الجامع. والأخطر من ذلك، أنه يعيد إنتاج منطق الاستعمار ذاته، الذي قسم الناس ليبقى مسيطراً.
الخطر هنا مزدوج: فهو من ناحية يحرم فئات عديدة من حقها الطبيعي في الانتماء الكامل، ومن ناحية أخرى يغذي خطابات الكراهية والاستعلاء، التي تتجلى في عبارات مسيئة مثل “عرب شتات” وغيرها من عبارات التحيز العرقي والتنميط التي تدفع بالمجتمع نحو مزيد من التفتت والاحتراب الداخلي.
لقد آن الأوان لكسر هذه الحلقة المفرغة. آن الأوان لنتجاوز هذا الإرث الاستعماري الثقيل الذي لا يثقل كاهلنا كشعب فحسب، بل يشكل عائقاً رئيسياً أمام بناء دولة القانون والمؤسسات. فالاعتزاز بجذورك وأصالتك لا يتناقض أبداً مع الاعتراف الكامل بحق الآخر في نفس الاعتزاز والانتماء للوطن. فالوطن يتسع للجميع.
الحل الجذري لا يكمن في الاستمرار في تقسيم الناس إلى فئات ودرجات، بل في الشجاعة لبناء عقد اجتماعي جديد، يقوم على فكرة المواطنة الشاملة والعادلة. دولة لا تسأل مواطنيها عن أصولهم العرقية أو القبلية، بل تضمن لهم جميعاً نفس الحقوق والفرص، وتحتكم إليهم بنفس المقاييس، بغض النظر عن أي انتماءات. دولة يكون القانون فيها هو الفيصل، والكرامة الإنسانية هي الأساس.
فقط من خلال تجاوز هذه الثنائية الاستعمارية البالية، يمكننا معالجة جذور الأزمات المتكررة وبناء مستقبل يستطيع فيه كل السودانيين، بدون استثناء، أن ينظروا إلى بعضهم البعض ليس كمنافسين على شرعية الوجود، بل كشركاء في وطن واحد، ومصير مشترك.


