حقائق

منسيون خلف القضبان.. تحقيق لـ”دروب” يوثق مأسي السودانيين في السجون المصرية

القاهرة 3 مايو 2025 – يقبع عشرات السودانيين خلف قضبان السجون المصرية بتهم مختلفة دون محاكمات، فيما وجد آخرون أنفسهم مرحلين قسرياً إلى السودان، وفق ما حصلت عليه “دروب” من شهادات لمبعدين وذوي محتجزين في السجون المصرية.

أغلب المحتجزين لاجئين فروا من الصراع العسكري داخل السودان وجرى تقييدهم في كشوفات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بدولة مصر، إلا أن ذلك لم يشفع لهم كما لم تتدخل المفوضية لوقف ما يتعرض له اللاجئي السودانيين من احتجاز أو ترحيل قسري.

علمت “دروب” أن السفارة السودانية في القاهرة احتكرت حجز تذاكر السفر عبر الطيران لتبيعها لمن يتم ترحيلهم قسرياً بواسطة السلطات المصرية، بسعر أعلى من ثمنها عند الشركة، وذلك عوضًا عن تسهيل إجراءات سفر رعاياها مجاناً، وفق ما قاله سودانيون.

يواجه المعتقلون ظروفاً إنسانية بالغة التعقيد، داخل زنازين تضيق بالأنفاس، وتفتقر لكثير من معايير تراعي الإنسانية كما يتعرضون لاعتداءات وابتزاز مالي من مجموعات إجرامية داخل السجون.

تستخدم “دروب” أسماء مستعارة للمصادر الواردة في هذا التحقيق، وذلك لأسباب تتعلق بسلامتهم، عدا الصحفي السوداني علي فارساب، الذي مكث بالسجن أكثر من شهرين وتم ابعاده إلى السودان قبل أن تلحق به مفوضية اللاجئين في اسوان وتقوم بتوطينه في كندا.

أربعة أشهر خلف القضبان

يقبع “محمد عمر” خلف قضبان السجن منذ ديسمبر 2024، دون عرضه على محكمة طوال هذه المدة، وفق لإفادة أحد أقربائه لـ”دروب”.

وأوضح أن “عمر” يعاني من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم، وقد تدهور وضعه الصحي نسبة لظروف الاعتقال القاسية، وفق قوله.

وأضاف “يفترش السجناء الأرض في زنزانة ضيقة تضم بداخلها ثمانية أشخاص، مع رداءة الظروف الصحية، وما يزيد الوضع سوءًا وجود الحمام داخل نفس الزنزانة، كما أن الوجبات المقدمة سيئة جدًا”.

تواصلت “دروب” مع “محمد عمر” الذي كشف جانبًا من معاناته بالسجن، موضحاً أن أكبر تحدٍّ يواجهه هو كيفية توفير مبلغ ألفي جنيه مصري أسبوعيا، لصالح من يعرف بـ”الكبير” داخل السجن نظير توفير الحماية له من اعتداءات البلطجية الموجودين داخل الحراسة، خاصة أن بعض المحتجزين يتعاطون مغيبات ويفتعلون مشاجرات لا تستثني أحدًا، وفق قوله.

يتم توصيل المبلغ لـ”الكبير” عن طريق قيام أهل المسجون بتحويل المبلغ عبر خدمة “فودافون كاش”.

صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي

ملابسات الاعتقال

منتصف ديسمبر العام الماضي خرج “محمد عمر” مسرعًا من منزله الكائن بمنطقة فيصل بمحافظة الجيزة لاستلام حوالة مالية، وهو لا يدري أن القدر كان يرسم له مصيرًا آخراً.

كان “عمر” الذي يعمل في دكان أقمشة ويعول أسرة مكونة من زوجته وأبنائه الثلاثة، قد أنهى محادثة هاتفية جمعته بشقيقه المقيم في السعودية، الذي أخبره بتحويل مبلغ مئتي دولار أمريكي لتغطية تكاليف علاج والدتهما المريضة.

وأضاف “بعد استلام الحوالة المالية توجهت إلى الصرافة لتبديل العملة، وبينما أنا في طريقي لاستقلال “توك توك” للعودة إلى المنزل، إذا بصوت يستوقفني، عندما أدرت وجهي لمحته يرتدي زيًا مدنيًا، حسبته يسأل عن عنوان ما، لكنه طلب مني إبراز هويتي، ثم أمرني بالصعود إلى سيارة”، قائلاً “في القسم ستعرف كل حاجة”.

اتهام بالاتجار بالعملة

مضى “محمد عمر” قائلاً “بعد امتلاء العربة توجهنا نحو قسم العمرانية بمنطقة الهرم، حيث دلفنا إلى الداخل وأخبرني الضابط أني رهن الاعتقال بتهمة الاتجار في العملة”.

تفاجأ “عمر” بالزج به داخل الحراسة على الرغم من محاولاته شرح موقفه وإبراز إيصال الصرافة، إلا أن أحدًا لم يعره اهتماماً.

من جهته قال محامي “محمد عمر” لـ”دروب”، إن الإجراءات كانت ستنتهي سريعًا نظرًا لوجود إيصال الحوالة المالية، حيث كان متوقعاً أن يُعرض على المحكمة ويتم إطلاق سراحه بعد تبرئته، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، فها هو يتجاوز شهره الرابع خلف القضبان.

ووفقًا لأحد أقارب “محمد عمر”، فإن المفوضية والسفارة على علم بذلك دون ان تحرك ساكناً.

شهر عسل خلف القضبان

يقف أهالي المحتجزين في انتظار بدء الزيارة المخصصة يومي السبت والثلاثاء، حيث يحضر الأهالي كميات كبيرة من الطعام وعلب السجائر لضابط المناوبة وكبير الحراس، مع كتابة اسم المحتجز ورقم حبسه.

إحدى السيدات السودانيات المنتظرات في صف زيارة السجناء، نصحت الأهالي بعدم تسليم أي مبالغ مالية لمن يزورونهم، لأن ذلك يجعلهم هدفًا داخل الحراسة.

بين المنتظرين كانت سيدة سودانية في الثلاثينيات من العمر تحدق ببصرها بعيدًا، مقرورة العينين، تحفظت عن ذكر اسمها لكنها أفادت “دروب” بأنها آتية لمقابلة زوجها القابع خلف أسوار السجن.

قالت إنهما دخلا مصر بطريقة غير شرعية بعد عقد قرانهما حديثًا في مدينة كسلا شرق السودان، وبعد تسجيلهما بالمفوضية، تم اعتقال زوجها أثناء ذهابه لاستقبال شقيقتيه بمطار القاهرة.

أكدت أنها تواصلت مع مفوضية اللاجئين التي وعدت بمعاودة الاتصال بها دون ان تفعل، وقد كررت الاتصال لكن دون جدوى.

زيارة خاصة

في قسم “بولاق الدكرور” يقبع “حسام” اسم مستعار، بينما تعاني والدته من بعض الأمراض المزمنة، وهي تتردد على زيارة ابنها على أمل الافراج عنه.

قالت شقيقة “حسام” لـ”دروب” إن شقيقها جرى اعتقاله أثناء ذهابه إلى المخبز على رغم من حمله إيصالات إجراءات  الإقامة.

أكدت أن “الزيارات محدودة لرؤية شقيقها بعد دفع خمسمائة جنيهاً مقابل ما أصطلح على تسميته بـ”زيارة خاصة”، مبينة أن والدتها تدهورت صحتها وهي ترى أن ابنها يزداد نحولًا في كل زيارة، ولضيق ذات اليد أخطرت المفوضية ولكنها لم تفعل شيئاً.

حاولت العائلة حجز تذكرة سفر لابنها حيث أكدت السفارة أنه يمكنه المغادرة مباشرة إلى السودان حال أكمل إجراءات حجز التذكرة من عندها.

70 سجيناً في زانزنة بمساحة 8×4 أمتار

روى الصحفي علي فارساب، لـ”دروب” تفاصيل احتجازه بالسجون المصرية لأكثر من شهرين تعرض خلالها لانتهاكات جسيمة، شملت الحرمان من المساعدة القانونية ومنع التواصل مع أسرته لأكثر من عشرة أيام، وفق قوله.

وأضاف أن “الظروف داخل السجن كانت قاسية للغاية، حيث تم وضع أكثر من 70 سجينًا في زنزانة ضيقة بمساحة 8×4 أمتار، واضطروا للنوم واقفين. كما تم حرمانهم من دخول دورات المياه للتبول لمدة ثلاثة أيام، مما أدى إلى تورم في أرجل بعضهم”.

وأوضح فارساب الذي اعتقل مع صحفيين آخرين بتهم غير واضحة، أن سلطات السجن لم تسمح بنقلهم لتلقي العلاج أو وضعهم في زنزانات أخرى، ومنعتهم أيضًا من التحدث مع أسرهم عبر الهاتف بناءً على تعليمات من الأمن الوطني.

الصحفي السوداني علي فارساب داخل إحدى السجون المصرية

وقال: “بعد ضغط من الأسر وجهات متعددة، أصدرت النيابة قرارًا بإخلاء سبيلينا بعد أسبوع من الاعتقال، لكن الأمن الوطني وجه لنا تهم كيدية، وأن السلطات أجبرتنا على إحضار جوازات السفر، ونسبة لعدم امتلاكنا جوازات، تم إرسالنا إلى سفارة السودان بالقاهرة أكثر من خمس مرات لاستخراج وثائق سفر، وهو ما رفضته السفارة بحجة أننا لاجئين ويجب مخاطبة المفوضية بشأننا”.

وأشار إلى أن إدارة السجن أخفت كروت المفوضية خاصتهم والتي سلموها للسجن كأمانات، مما أدى إلى صدور قرار من الأمن الوطني بإبعادهم من الأراضي المصرية.

وأكد فارساب، أنه تعرض لانتهاكات شخصية، حيث تم عصب عينيه وربط يديه لأكثر من ساعة، واتهم بأنه قائد المجموعة. وقال إن الإساءات اللفظية الممنهجة كانت موجهة ضد السودانيين بشكل خاص، مردفاً “لاحظت ذلك من خلال تصرفات مسؤول دائرة الأجانب بجوازات العباسية بالقاهرة”.

ووصف الأوضاع في السجن بأنها صعبة للغاية، حيث تعرضوا لتصرفات عنيفة من قبل بلطجية داخل السجن، وتم نهب أموالهم.

وفاة داخل السجن

وكشف فارساب عن معايشته حالة وفاة لسوداني داخل السجن نتيجة تعرضه لاعتداء من قبل بعض السجناء، حيث تم التكتم على الحادثة ولم تجرِ إدارة السجن أي تحقيق فيها.

وأضاف أن “الجثمان سلم إلى أسرته في المشرحة دون توضيح سبب الوفاة الحقيقي”. وأشار إلى أن وفيات السودانيين تحدث بشكل متكرر داخل السجون المصرية، لكن يتم التكتم عليها، وفي بعض الحالات لا يتم إبلاغ الأسر.

وأكد أن عدد السودانيين في السجون المصرية كبير، حيث التقى بالعديد منهم أثناء ترحيله إلى الأمن الوطني، مشيرًا إلى أن قسم قصر النيل كان يحتجز أكثر من 20 سجينًا سودانيًا.

قال فارساب إنه قضى في السجن حوالي شهر ونصف في سجن قصر النيل، ثم تم ترحيله إلى مدينة أسوان حيث مكث فيها لمدة أسبوعين، وبعد تجميع حوالي 80 سجينًا سودانيًا في سجن 15 مايو، تم التخطيط لترحيلهم إلى السودان، لكنه نجأ بعد تدخل مفوضية اللاجئين التي سهلت له السفر إلى كندا حيث يعيش الآن.

وأشار إلى وجود سجن تابع لقوات الأمن الوطني في أسوان مخصص للسودانيين وبعض الأجانب، يضم على الأقل عشر زنزانات ممتلئة بالسودانيين، حيث يتعرضون لظروف قاسية بسبب منع استخدام الهواتف.

وأضاف أن هناك مجموعة من الإثيوبيين تم اعتقالهم في الأيام الأولى للحرب ولا يزالون في السجن لأكثر من سنتين، بالإضافة إلى سودانيين محتجزين لأكثر من سنة دون السماح لهم بالتواصل مع أسرهم.

وأوضح فارساب أن بعض الزنازين تتسع لأكثر من 600 شخص، بينما تتسع أخرى لحوالي 60 إلى 70 شخصًا. وبعد ترحيل السجناء إلى أبو سمبل، يتم ملء السجن بسودانيين آخرين من عمال المناجم.

وأشار إلى أن هناك عددًا كبيرًا من السودانيين يعملون في التعدين، يُقدر عددهم بحوالي 30 ألف شخص، يتعرضون لحملات اعتقالات ويُودَعون في السجون، وقد يحكم على بعضهم بالسجن لمدة تصل إلى 15 سنة من قبل قوات حرس الحدود.

طريقة الترحيل

قال عبد الرحمن السيد، اسم مستعار، إنه تعرض للاعتقال بمحطة الأبيض منتصف فبراير الماضي، رغم حمله لكارت مفوضية اللاجئين.

أضاف لـ”دروب” “نسيت محفظتي أثناء استعجالي، وعند الوصول إلى القسم، سُمح لنا بمكالمة الأسرة لإحضار البطاقة، ولكن عند وصول أخي كان الأمر منتهيا، تم تحرير محضر ضدي”.

سودانيون يصطفون امام إحدى الحراسات المصرية في انتظار زيارة ذوييهم المحتجزين، صورة لـ”دروب”

أُحيل السيد إلى النيابة حيث أبرز كارت المفوضية، لكنه نُقل إلى مباني الأمن الوطني، وبعد التحقق من الأسماء، أعيد إلى القسم ثم إدارة الجوازات والهجرة وظل محتجزًا حتى صدور قرار الترحيل إلى السودان.

طريقة الترحيل تبدأ من القسم بالنداء على أسماء المحتجزين للترحيل إلى الجوازات والهجرة، ثم الأمن الوطني، ثم العودة إلى القسم، وهكذا.

هنالك خياران متاحان للمغادرة اما الترحيل البري عبر الباصات مجانًا، مع انتظار طويل بسبب كثرة المحتجزين، أو الترحيل الجوي بعد حجز تذاكر سفر عبر السفارة السودانية.

أوضح عبد الرحمن أنه حجز التذكرة عبر السفارة بمبلغ 11 ألف جنيه، مقارنة بـ9 آلاف عبر مكتب شركة تاركو.

وأضاف أن “شقيقه اقترح ارسال التذكرة من خارج مصر نسبة لعدم توفر المبلغ ولكن السفارة السودانية رفضت قبول تذاكر مرسلة من الخارج واشترطت أن يتم الحجز عبرها لتكون التذكرة معتمدة”.

تحققت “دروب” من أن سعر تذكرة الرحلة من القاهرة إلى بورتسودان يبلغ تسعة آلاف جنية مصري.

سجلت “دروب” زيارة إلى السفارة السودانية في القاهرة، حيث أكد موظفو المكتب 15 أن السفارة لا تعتمد التذاكر الخارجية وأن الترحيل يتم بعد إجراءات التنسيق مع الشرطة والهجرة غير الشرعية بمصر.

ويُمنع العائدون من دخول مصر لمدة خمس سنوات.

أكدت السفارة السودانية أن الغالبية العظمي ممن حجزوا للسفر عبرها مسجلين في مفوضية اللاجئين وأن هناك من تم توطينه وتبقى على سفره يومين لكن تم أبعاده.

وفقا لاتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين والبرتوكول الملحق بها لعام 1967 يحظر على الدول احتجاز اللاجئين أو معاقبتهم لمجرد دخولهم أو إقامتهم بطريقة غير نظامية، طالما تقدموا الى السلطات وشرحوا أسباب لجوئهم.

كما تؤكد المادة 33 من الاتفاقية مبدأ عدم الإعادة القسرية الذي يمنع طرد أو إعادة لاجئ الى بلد قد تتعرض فيه حياته أو حريته للخطر بسبب عرقه أو دينه أو انتمائه لفئة اجتماعية معينة أو ارائه السياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى