التجاني عبد القادر و”اللحظة الحاسمة”: استدعاء خارج السياق للتاريخ
(ما تطلبه تركته وراءك في "بسطام")

٢٣ ديسمبر ٢٠٢٥
قبل أيام نشر د. التجاني عبد القادر – وهو من الإسلاميين الذين اتَّخَذوا، منذ منتصف التسعينات، موقفاً ناقِداً لمنهج الحكم الذى سارت به الحركة الاسلامية فى تجربة “الإنقاذ” ووصفه بتحالف القبيلة والسوق والأمن – مقالاً يستدعي فيه شيئاً من التاريخ العالمي ليخاطب به لحظة سودانية شديدة التعقيد، ويستحضر سقوط فرنسا عام ١٩٤٠ بوصفه مفتاحاً لفهم الواقع الميداني في السودان، والترويج لخيار الحل العسكري والمناداة بتدخل خارجي لاستعجاله .. لكنَّ التاريخ قَلَّما يمنح نفسه بسخاء لمن يطلبه شاهداً، بل يشترط قدراً من التماثل في الوقائع ومن الانتباه للفوارق، قبل أن يسمح بالمقارنة.
ففرنسا التي سقطت أمام الجيش النازي كانت دولة متماسكة البنية، ذات جيش مهني واحد، ونظام سياسي جمهوري تعددي، مهما اعتراه من ضعف أو ارتباك أوان الهزيمة؛ أي أنها كانت دولة قائمة على مؤسسات مدنية، وتداول سياسي، وشرعية دستورية.
أما السودان، فإن محنته لم تنشأ من الخارج أو بسبب خذلان حلفاء، بل من داخله، حيث تَعثَّرت عملية البناء الوطني بفعل غياب – أو تغييب – التوافق على عقدٍ اجتماعي جامع يُشاد على أساسه ذلك البناء. وتَعَقَّدت هذه المحنة عبر عقود من تراكم الأزمات منذ الاستقلال، في ظل هيمنة النظم العسكرية لما يقارب ستة عقود من جملة مسيرة الحكم الوطني .. وقد انعكس الاضطراب المزمن، في العقل السياسي المسيطر، عجزاً عن إدارة التنوع ومصادرةً للحقوق العامة والفردية، حتى باتت لغة السلاح – لا السياسة – هي الأعلى صوتاً خلال سنوات ما بعد الاستقلال.
وقد كان لنظام المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية “الإنقاذ”، الذي حكم البلاد ثلاثين عاماً، القَدْحُ المُعَلَّى في تعقيد الأزمة الوطنية، عبر عسكرة السياسة وإضعاف المجال المدني وترسيخ التمكين في مختلف مفاصل الدولة على أساس الولاء والانتماء السياسي، حتى تحول السودان إلى دولة الحزب لا الشعب.
في مقالٍ سابق نُشِر أوائل ديسمبر ٢٠٢٠، دعا د. التجاني إلى استراتيجية “تفهم ذاتي” لاكتشاف المشترك الإنساني والوطني وعدم الهرولة إلى الخارج، وهي دعوة صحيحة في جوهرها، لكنها لا تتسق مع تَبنِّيه لاحقاً خيار الحل العسكري المقترن بتدخل خارجي بذريعة عدم تفويت “اللحظة الحاسمة” .. وفي ذلك المقال، أوغل د. التجاني أكثر في أعماق التاريخ، مستدعياً سيرة أولئك الذين كان مصيرهم التيه والشتات لأنهم خرقوا ميثاق التعايش السلمي بسفك دمائهم وإخراج فريقٍ منهم من ديارهم والتظاهر عليهم بالإثم والعدوان؛ أي الحرب وما يرافقها من قتلٍ وتشريد وانتهاكات. غير أن هذا الاستدعاء يغفل أن جرائم القتل والتشريد وسائر الانتهاكات لم تكن قاصرة على هذه الحرب وحدها، بل اقترنت بمسار تاريخنا الراعِف منذ الاستقلال؛ فقد وقعت في حرب الجنوب، وتَكرَّرت في دارفور وبسببها أدانت المحكمة الجنائية الدولية علي كوشيب، بوصفه أحد المتهمين ضمن آخرين من قادة الحركة الإسلامية.
عند رَدِّ الأزمة السودانية إلى أصولها، يَتبدَّى بوضوح أن منشأها الأساسي داخلي، كما أن مفاتيح حَلِّها كامنة فيه .. ومن هنا فإن الأسئلة التي ينبغي أن تُطرح في اللحظة السودانية الراهنة يجب أن تكون أكثر عمقاً: هل هبطت هذه الحرب من سماء صافية، أم أنها كانت المحصلة المنطقية لتاريخٍ طويل من العجز والفشل، ومن المظالم التاريخية وعسف الدولة الذي طال الأفراد والمجموعات، لا سيما خلال حقبة حكم نظام “الإنقاذ”؟
ومن هو الطرف الذي قاد، بصورة مباشرة، إلى انفجار الحرب، استناداً إلى شواهد موثّقة سبقت لحظة الانفجار؟ ولماذا يُصِرُّ هذا الطرف، بالذات، على رفض أي أفق سياسي للحل وعرقلة أية مبادرة تسعى له؟
ثم، إذا ما وضعت الحرب أوزارها يوماً، فبأي أسس سَتُعاد صياغة الدولة؟ أي شكلٍ للحكم المدني الديمقراطي يضمن المشاركة المتكافئة للجميع؟ وما هي الإجابة على أسئلة الهوية وعلاقة الدين بالدولة؟ وكيف يُنْهَى تعدد الجيوش لصالح جيش مهني واحد خالٍ من النفوذ الحزب ولا شأن له بالسياسة؟ وكيف تُعاد هيكلة البنيان الاقتصادي على أساس تنمية متوازنة تضع موارد البلاد في خدمة المجتمع كله؟
وكيف تُنجَز العدالة، بما في ذلك العدالة الانتقالية، على نحوٍ يُنصف الضحايا ويضع حَدَّاً للإفلات من العقاب ويفتح أفق التعافي الوطني؟
إجمالاً، بأي عقدٍ اجتماعي تُطوى صفحة الحروب – لا مؤقتاً، بل مرةً وإلى الأبد – ويُبنى وطنٌ يسع الجميع؟
ومع أنّ الانكشاف الداخلي يبدو فادحاً، فإن اللحظة الراهنة تحمل فرصة لا ينبغي التفريط فيها، فقد اتفقت الأطراف الإقليمية والدولية على نحوٍ غير مسبوق على ضرورة إيقاف الحرب في السودان، رغم ما يعتري مواقف هذه الأطراف من تباينات في المقاربات وزوايا النظر للمصالح .. وفي هذا المنحى، جاء بيان “الرباعية” – وحظي بدعم داخلي وخارجي واسع – مؤكداً بصورة حاسمة أن النزاع في السودان لا يمكن حله عسكرياً، وداعياً إلى هدنة إنسانية تعقبها عملية سياسية شاملة تقود إلى توافق سوداني يعالج جذور الأزمة الوطنية المزمنة، ويُفْضِي إلى حكمٍ انتقالي مدني.
وغنيٌّ عن القول أنَّ الدور الخارجي، مهما كان إيجابياً، لا يُثمِر إلا بوجود رؤية وطنية واضحة، تُحسِن التعاطي مع واقع إقليمي ودولي متشابك وأحياناً متعارض المصالح، من موقع المبادرة لا التبعية، وتسعى إلى تحقيق المصالح المشتركة مع الجميع تأسيساً على المصلحة الوطنية .. فالسودان، حين يستقر ويتعافى، يكون مؤهلاً للمساهمة في الأمن والسلم والتعاون في مختلف المجالات على المستويين الإقليمي والدولي.
إن الحل الذي يُبْحَثُ عنه موجودٌ في “بسطام” .. وبسطام هنا ليست تلك البلدة الخراسانية التي يُنسَب إليها الصوفي الشهير أبو يزيد طيفور البسطامي الذي هُوتِف خلال سياحته في الأرض: “ما تطلبه تركته وراءك في بسطام يا أبا يزيد”، بل هي السودان نفسه؛ حيث يكمن الحل السياسي السلمي كخيار وحيد لإنهاء الحرب، والأقل كلفةً على الشعب والوطن والأكثر قابليةً للاستدامة .. وهو خيار يقتضي من كل الباحثين، بوعيٍ وصدق عن مخرج من الأزمة، حثّ طرفي الحرب، ولا سيما الجيش، على الانخراط في التفاوض لتنفيذ الهدنة الإنسانية المقترحة في بيان “الرباعية”، وفوق ذلك مواجهة القوى التي لا تأبه بمعاناة الناس من أهوال الحرب ولا بتداعياتها المُدَمِّرة على الوطن، بموقفٍ لا يحتمل الالتباس: الكفّ عن الرهان على الحرب لاستعادة سلطةٍ غربت شمسها بإرادة الشعب، والقبول بتفكيك شبكة التمكين داخل أجهزة الدولة، والتخلي عن نهج فرض الوصاية على الشعب بالقوة والتسليم بالإرادة الشعبية التي عَبَّرت عنها ثورة ديسمبر، والإقرار بأن الحل السياسي السلمي – الذي لا يغفل المحاسبة على الجرائم والانتهاكات – هو سبيل الخلاص الوحيد.
نحن بالفعل في لحظة حاسمة، لكن الحسم لا يكون بمنطق السلاح والغلبة، بل بالحوار لكسر حلقة العنف، والتوافق على أسس بناء وطني جديد معافى من خطايا الماضي، حتى لا يظل السودان ساحةً تَسْتَعِر فيها الحرب تارةً باسم البقاء وأخرى باسم الكرامة – مع تجاهل مسبباتها الحقيقية – بينما يتآكل معنى البقاء وتُنتَهك الكرامة مع طالع كلِّ شمس.



