ترامب والسودان: عندما تتحدث المعادن النادرة لغة القوة
*كيف حوّل ولي العهد السعودي الأزمة الإنسانية إلى معادلة جيواستراتيجية*

د.ابن عوف أحمد
عندما أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن ملف السودان يُدار مباشرة من مكتب الرئيس ترامب، انقسم المراقبون بين متفائلين يرون في التصريح نقطة تحول حقيقية، ومحللين يتعاملون مع الأحداث بسطحية “رزق اليوم باليوم”، متجاهلين القوى الحقيقية التي تُحرك المشهد. لكن لفهم هذا التحول، علينا النظر إلى درس مؤلم تعلمه ترامب قبل أسابيع فقط عندما اضطر للرضوخ لابتزاز صيني صريح بسلاح المعادن النادرة.
في أواخر أكتوبر الماضي، وبعد أسابيع من التصعيد التجاري، فرضت بكين قيودًا صارمة على تصدير خمسة عناصر إضافية من الأتربة النادرة. الصناعات الأميركية الحيوية، من السيارات الكهربائية إلى الأنظمة الدفاعية، واجهت شبح توقف كامل. ترامب، الذي طالما تباهى بصلابته أمام الصين، اضطر للجلوس مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، ليقبل صفقة مذلة: تخفيض التعريفات الجمركية على البضائع الصينية بعشر نقاط مئوية مقابل استئناف تدفق المعادن لعام واحد فقط. هذا الدرس القاسي علّم ترامب حقيقة مرة: من يسيطر على المعادن النادرة يمتلك رقاب الاقتصادات الحديثة.
عندما زار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان واشنطن، كان يدرك تمامًا هذا السياق. كثيرون توقعوا أن يستعرض الأمير محمد الكارثة الإنسانية في السودان، لكن ولي العهد أذكى من أن يضيع وقته في خطابات أخلاقية لا تُحرك ترامب. بدلاً من ذلك، ملّكه ملف ثروات السودان المعدنية، وبخاصة المعادن النادرة، فتحول الصراع في عين ترامب من مأساة إنسانية بعيدة إلى ورقة استراتيجية ضد الابتزاز الصيني.
السودان يجلس فوق ثروة معدنية هائلة تشمل الذهب، الكروم، النحاس، الحديد، اليورانيوم، والأهم: احتمالية وجود احتياطيات ضخمة من عناصر الأتربة النادرة الحاسمة في كل شيء من الهواتف الذكية إلى الصواريخ الباليستية. الصين تسيطر على ستين في المئة من التعدين وتسعين في المئة من المعالجة، والاتفاقيات المستعجلة التي وقعها ترامب مع أستراليا واليابان لن تُثمر قبل عقد من الزمن. واشنطن تحتاج إلى مصادر بديلة فورية، وهنا بالضبط يظهر السودان كفرصة لا تُعوض.
لكن البُعد الاقتصادي ليس وحده ما يُحرك هذه المعادلة، بل يتقاطع مع مخاوف سعودية عميقة من “الهلال الإماراتي” الذي بات يلتف حول المملكة استراتيجيًا. قبل يومين، سيطرت الميليشيات الانفصالية الموالية للإمارات على مدينة سيئون في حضرموت اليمنية وباتت تحاصر حقول النفط. هذه ليست حادثة معزولة، بل حلقة في سلسلة تمتد من عصب الإريترية إلى بربرة الصومالية، من بوصاصو إلى عدن والمخا وجزيرة سقطرى، وصولاً إلى الموانئ السودانية المستهدفة. الهلال الإماراتي يُطوق السعودية من الجنوب والشرق، والسودان يُمثل الحلقة الحاسمة في هذه الاستراتيجية.
هنا تلتقي المصالح السعودية والأميركية: منع سيطرة الإمارات، وبالتالي تسهيل نفوذ صيني محتمل، على السودان. السعودية تُحركها مخاوف إقليمية من التطويق، بينما تُحرك واشنطن كوابيس الابتزاز الصيني الأخير والحاجة الماسة لتأمين مصادر بديلة للمعادن الحيوية. محمد بن سلمان، بذكائه السياسي، فهم أن الطريق إلى قلب ترامب لا يمر عبر الخطابات الإنسانية بل عبر تقديم فرصة لتحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية ضخمة.
لكن بعيدًا عن التفاؤل والتشاؤم السطحيين، علينا أن ننظر إلى الواقع البارد: هناك لوبيات نافذة في واشنطن تعمل لصالح الإمارات، استُثمر فيها بسخاء على مدى عقود. الإمارات صرفت مليارات الدولارات في حرب السودان وبنت شبكات معقدة من المصالح والنفوذ، ومن غير الواقعي أن نتصور أنها ستخرج من المولد بلا حمص بعد كل هذا الصرف الباهظ . أبوظبي خسرت سمعتها الدولية التي بنتها بعناية، وباتت متهمة رسميًا في تقارير أممية بدعم ميليشيا ترتكب جرائم حرب. لن تقبل بهذه الخسارة المُذلة دون قتال شرس في دهاليز واشنطن.
الصراع الحقيقي ليس على أرض السودان فقط، بل في مكاتب الكونغرس وشركات العلاقات العامة ومراكز الأبحاث الواشنطنية. الإمارات تملك أدوات ضغط هائلة: استثمارات ضخمة في الاقتصاد الأميركي، تعاون أمني حيوي، قواعد عسكرية استراتيجية، ودور محوري في ملفات إقليمية متعددة. إدارة ترامب نفسها فيها شخصيات لها علاقات عميقة مع أبوظبي. المعركة، إذن، ستكون طويلة ومعقدة وقذرة، ولن تُحسم بتصريح وزير خارجية أو حتى باهتمام رئاسي معلن.
السؤال الحاسم: هل يمكن لتقاطع المصالح الأميركية-السعودية أن يتغلب على النفوذ الإماراتي العميق في واشنطن؟ التاريخ يُعلمنا أن اللوبيات لا تُهزم بسهولة، خاصة عندما تُدافع عن استثمارات بمليارات الدولارات. التحدي الأكبر هو أن الإمارات ليست خصمًا يسهل مواجهته، بل حليف أمني حيوي لواشنطن في ملفات متعددة من مكافحة الإرهاب إلى احتواء إيران. المناورة الأميركية ستكون دقيقة ومحفوفة بالمخاطر.
الشعب السوداني، في خضم هذه المعادلات المعقدة، يبقى الغائب الأكبر رغم كونه الضحية الأولى. أكثر من عشرة ملايين نازح، مئات الآلاف من القتلى، وجيل بأكمله حُرم من التعليم. هذا الثمن الإنساني الباهظ لا يُقارن بأي مكاسب استراتيجية. لكن المنطق القاسي للسياسة الدولية نادرًا ما يضع المعاناة الإنسانية في المقام الأول.
التدخل الأميركي، إذا كان جديًا، يُمكن أن يُغير الديناميكية، لكن فقط إذا جاء ضمن استراتيجية شاملة تضع إنهاء الحرب في المقام الأول وتواجه بحزم النفوذ الإماراتي. هذا يتطلب إرادة سياسية استثنائية وقدرة على مواجهة لوبيات راسخة وحليف تقليدي استثمر بكثافة في بناء شبكة نفوذه. الأسابيع القادمة ستكشف ما إذا كان الاهتمام الأميركي المعلن حقيقيًا أم مجرد مناورة إعلامية.
في النهاية، السودان لم يعد على هامش الاهتمام الدولي، لكن هذا الاهتمام يحمل مخاطر أن يتحول البلد إلى ساحة صراع جديد بين القوى العظمى واللوبيات المتصارعة. المعادن النادرة باتت لغة القوة الجديدة في عالم ما بعد رضوخ ترامب للابتزاز الصيني، لكن السؤال يبقى: هل ستُترجم هذه اللغة إلى خلاص حقيقي للشعب السوداني، أم إلى فصل آخر من الاستنزاف والمعاناة؟



