كيف سقطت الفاشر؟ .. “دروب” ترصد كواليس اللحظات الأخيرة
هل السودان على درب السيناريو السوري أم الليبي؟

(خاص) 26 أكتوبر 2025 – بعد أكثر 16 شهراً من القتال، سيطرت قوات الدعم السريع على مقر الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش في الفاشر بولاية شمال دارفور، في نقطة تحول كبرى في مسار الحرب المستمرة في البلاد لما يزيد عن عامين.
ويواجه المدنيون العالقون في الفاشر مصير مجهول، وسط مخاوف من تعرضهم إلى الانتقام من قوات الدعم السريع، التي انتشرت في أنحاء المدينة. لكن قوات الدعم السريع تعهدت خلال بيان صحفي الأحد؛ بحماية المدنيين في الفاشر بالتنسيق مع حكومة تأسيس.
وقبل لحظات من سقوط فرقة الجيش، تواصل مواطنون ومتطوعون كانوا عالقين في الفاشر مع أقاربهم ومعارفهم وودعوهم، وطلبوا منهم العفو والسماح، لأنهم ربما لا يلتقون مجدداً، وفق ما أفاد به مواطن تلقى اتصالاً من أحد أقاربه في المدينة “دروب”.
وفعل الشيء نفسه، ضباط في الفرقة السادسة مشاة، حيث ودعوا زملاءهم الذين يقيمون في مناطق أخرى من السودان عبر الهواتف، وطلبوا منهم العفو والسماح، قبل أن يغادروا جميع مجموعات الواتساب المشتركة بينهم.
مؤشرات السقوط
واندلع القتال في الفاشر في مايو 2024م، عقب فك القوة المشتركة للحركة المسلحة، مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم الحياد، والانخراط في القتال إلى جانب الجيش، ضد قوات الدعم السريع.
ومنذ ذلك الحين، وضعت قوات الدعم السريع الفاشر تحت حصار شامل، مع تكثيف الهجمات العسكرية، ومنع دخول الغذاء والبضائع إلى المدينة، مما أدى إلى أوضاع إنسانية كارثية، واضطر السكان إلى أكل الأمباز وأوراق الأشجار للبقاء على قيد الحياة، بينما نزح آخرون إلى طويلة الخاضعة إلى سيطرة حركة تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور.
وبدأت مؤشرات سقوط فرقة الجيش في الفاشر قبل أسبوع، بعد تصاعد وتيرة المعارك وانتقالها إلى محيط الفرقة السادسة؛ وسيطرت قوات الدعم السريع على كافة المقرات الحكومية بما في ذلك منزل والي ولاية شمال دارفور.
وقال مصدر عسكري خلال حديث مع “دروب” إن رئاسة الفرقة كان ينبغي أن تسقط منذ يوم أمس السبت، حيث تمكنت قوات الدعم السريع من تجاوز دفاعات وحدة المدرعات وهي على البوابة الرئيسية للفرقة، لكن طائرات مسيرة للجيش تدخلت وأحبطت الهجوم.
انسحاب بالعتاد الحربي
وبحسب المصدر، فإن الجيش بدأ منذ مساء السبت في الترتيب لإخلاء رئاسة الفرقة السادسة، وفي وقت مبكر من اليوم الأحد انسحب بكل الآليات والعتاد الحربي إلى مواقع في حي الدرجة، وأن المعارك التي دارت كانت بغرض تأمين الانسحاب.
رواية المصدر، تعززها المقاطع المصورة التي نشرها مسلحو قوات الدعم السريع من داخل الفرقة السادسة؛ حيث ظهرت وهي خالية من العتاد الحربي والآليات العسكرية، كما لا تُظهر جثامين لقتلى أو عتاد مدمر أو محترق، وفق ما هو محتمل في مثل هذه المعارك.
وأظهرت فيديوهات نشرها مسلحي قوات الدعم السريع، مئات الأشخاص محتجزين قالوا إنهم أسرى ضباط وجنود يتبعون للجيش السوداني، ولم تُظهر الصور أي من أحد المحتجزين، يرتدي زي عسكرياً أو يحمل سلاحاً، وفق ما رصدته “دروب”.

وتقدر مصادر غير رسمية، عدد عناصر الجيش والقوة المشتركة في الفاشر حتى لحظة سقوط رئاسة الفرقة السادسة بنحو 30 الف مقاتل، ولا يُعرف حتى الآن مصير هؤلاء العسكريين وعتادهم الحربي.
ولم يصرح الجيش حتى لحظة نشر التقرير؛ بشكل رسمي بشأن ما يجري في الفاشر ومصير قواته، لكنه منصات مقربة منه، أكدت أن المدينة لم تسقط؛ وأن الجنود انسحبوا من الفرقة تكتيكياً.
وبحسب مصدر عسكري، فإن قوات الجيش لا تستطيع الخروج من الفاشر نظراً لإغلاق كافة المنافذ بواسطة قوات الدعم السريع، ولم يعد أمامها أي خيار غير المقاومة حتى نفاد الذخيرة.
واستولت قوات الدعم السريع على مقرقيادة الجيش في الفاشر بعد يوم واحد من سيطرتها على مدينة بارا في ولاية شمال كردفان في تطورات عسكرية متسارع، ترسم مسارا جديد للصراع المستمر بينها الجيش لأكثر من عامين.
مرحلة استنزاف
وحول التطورات العسكرية الأخيرة يقول الخبير الأمني الفاتح عثمان محجوب، إن ما جرى في “بارا والفاشر” يؤكد أن الحسم العسكري في السودان بات أكثر تعقيداً، مضيفاً أن ما يجري لا يعني قدرة الدعم السريع على تحقيق نصر نهائي، لكنه في المقابل يعكس قدرته على إبطاء أو منع تقدم الجيش نحو معاقله في إقليم دارفور بسهولة.
وأوضح محجوب في حديثه لـ”دروب” أن “هذا التقدم يُظهر أن ميزان القوى لا يزال متقارباً، وأن الحرب دخلت مرحلة استنزاف طويلة الأمد”، مشيراً إلى أن الرهان على القوة وحدها لم يعد كافياً لحسم الصراع.
وبشأن المقارنة بين الحالة السودانية ونظيرتها الليبية، قال محجوب إن “المشهد الميداني الحالي قد يبدو مشابهاً في بعض ملامحه للحالة الليبية، غير أن الوضع السياسي مختلف تماما، إذ لا توجد انقسامات حادة بين الدول الإقليمية المنخرطة في الشأن السوداني كما كان الحال في ليبيا”.
ويرى أن هذا الاختلاف يوفّر فرصة أكبر لتحقيق السلام، سواء عبر توازن القوى الراهن أو من خلال توافق سياسي بين القوى السودانية والدول الإقليمية والدولية، مشيراً إلى أن الآلية الرباعية، والإيغاد، والاتحاد الإفريقي يمكن أن تلعب أدواراً حاسمة في هذا الاتجاه.
غياب التنسيق
من جهته، اعتبر الخبير العسكري العميد (م) عمر أرباب أن ما حدث في بارا والفاشر يعكس حالة من عدم التجانس داخل المنظومة العسكرية، سواء بين القوات المسلحة والقوات المشتركة، أو على مستوى التنسيق بين القيادات السياسية والعسكرية.
وقال أرباب في تصريح لـ”دروب” إن “هناك تباينات واضحة في الرؤى بشأن أولويات العمليات الميدانية ومسار التفاوض، خاصة ما يتصل بتحديد مناطق الاسترداد وتوقيت تحرك القوات”، موضحاً أن هذه الخلافات أثّرت سلباً على وحدة الصف، وأدت إلى تراجع ميداني في بعض الجبهات.
وحذر من أن استمرار هذه التباينات دون معالجة جادة قد يؤدي إلى مزيد من التفتت والضعف في الجبهات الأخرى، داعياً إلى ضرورة توحيد الرؤية العسكرية والسياسية في مواجهة “العدو المشترك” على الأقل في هذه المرحلة الحرجة.
توازن القوى
ورغم التطورات الميدانية الأخيرة، يرى أرباب أن المشهد لا يشير إلى اقتراب أي طرف من تحقيق نصر عسكري حاسم، مشدداً على أن توازن القوى سيقود حتماً إلى تفاوض إجباري في نهاية المطاف، إما بفعل الإرهاق المتبادل أو تكافؤ القوة بين الطرفين.
وأضاف أن الصراع “ما يزال بعيداً عن مرحلة النضوج السياسي التي تدفع الأطراف إلى القناعة بأن السلام هو الخيار الوحيد”، في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لإنهاء الحرب.
وختم أرباب بالقول إن السودان، رغم تشابه بعض المظاهر مع المشهد الليبي، لن ينزلق إلى السيناريو الليبي، لأن طبيعة التكوين السياسي والاجتماعي والإقليمي تختلف، ولأن الأطراف الإقليمية الفاعلة لا تزال مترددة في تحويل السودان إلى ساحة صراع بالوكالة.
واستبعد أرباب احتمال انزلاق السودان إلى الحالة السورية، مشيرًا إلى أن المجتمع الدولي لن يقبل التعامل مع قوة متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة. وأضاف أن المجتمع الدولي قد يلجأ بدلًا من ذلك إلى ممارسة ضغوط غير مباشرة على الجيش عبر قوات الدعم السريع، ولكن دون تقديم أي دعم عسكري مباشر لها.



