أصدقاء دروب

الفاشر.. عندما تصبح الحياة انتظاراً طويلاً للموت المحتوم

مصطفى سعيد

منذ فترة طويلة احتجبتُ عن الكتابة عمّا يدور في هذه الجغرافيا المنكوبة، ربما لأنني أرى مِداد المنطق قد جف، أو أن الأسطر القليلة التي ندونها باتت تتلاشى في هوجِ تدوين من نوعٍ آخر، تدوين بالقذائف.

بحكم عملنا الصحفي، نتحدث بشكلٍ شبه يومي مع مصادر محلية متواجدة بمدينة الفاشر، ينقلون لنا بأصواتٍ مبحوحة يملؤها القلق، ويقطعها دويّ القصف، ما يمر به مواطن هذه المدينة التي لم تشهد فوضى قط كالتي حاقت بها جرّاء حرب أبريل.

أحد المصادر حدثنا قبل أيامٍ بأنه بات لا يقوى على الذهاب إلى التكية الوحيدة، التي تبعد عنه نحو نصف كيلومتر، وذلك بسبب الهزال والضعف العام اللذين يعاني منهما، بعدما جرّب هو وذووه كل وسائل البقاء على قيد الحياة، من تناول “الأمباز”، والقليل مما تجود به التكايا، وكأنما أصبح ينتظر قدره المحتوم.

وآخر افتقدناه، لنعلم لاحقًا أنه راح ضحية استهدافٍ بمسيّرة أطلقها الدعم السريع لتقضي عليه مع سبعين آخرين من سكان المدينة.

فأصبح الرهاب ينتابنا كلما طال رنين الهاتف، ويكبِّلنا عجزُنا عن تقديم ما يرجونه، فلا نملك تجاههم سوى انحيازنا الإنساني لهذا الحال

والفاشر، بصفتها مدينة استراتيجية تربط بين غرب السودان وشماله الذي تفصله عنها صحراء ممتدة، لا تقتصر أهميتها على بعدها الاستراتيجي فحسب، وإنما كونها عاصمة تاريخية لإحدى أعرق السلطنات السودانية، سلطنة الفور، بالإضافة إلى أنها حالة اجتماعية تمازجت فيها العديد من المكونات.

ومنذ بدء الحصار، انخرطت حتى نساء الفاشر في الدفاع عن مدينتهن. وبعيداً عن أي دفوعاتٍ أخرى تتعلق بدواعي الانخراط في القتال، إلا أنني أراها قضية عادلة، لا يحق لمن هو بعيد عن نيرانها إصدار الأحكام على كل من حمل السلاح في الفاشر، فـ”اليدّو في الموية ما زي اليدُّو في النار”!

ولأن انتهاكات الدعم السريع في كل مدينةٍ سيطر عليها لا تُخطئها عين، كان الدفاع فعلاً غريزيًا تؤيده المخاوف المترقّبة.

حوالي ٧٥٠ ألف روح بالفاشر، لا تدري ما الذي يمكن أن يفعله بها عناصر الدعم السريع، أو ما قد يحيق بهم جرّاء أحوالهم الإنسانية المتردية.

أرى أن التضامن مع حال السودانيين ككل أقلّ كثيرًا مما هو مطلوب، فالوجدان المشترك بات عبارةً لا تجدها إلا في مقالاتٍ رومانسيةٍ حالمة.

والقيادة تصدر بياناتٍ تحتفي فيها بنتائج التوصل إلى اتفاقياتٍ لوقف الحروب في دولٍ شقيقة، بينما تعجز عن إيقاف شلال الدم السوداني.

أما الأمم المتحدة، فلا تقدم سوى طقوس ممارسة القلق عبر بياناتٍ مملة لا تُطعم جائعاً ولا تؤمن خائفاً.

والقوى السياسية منشغلةٌ بمعاركها الانصرافية، وتصفية الحسابات، والبحث عن موطئ قدمٍ في أي خارطةٍ سياسيةٍ جديدة. بينما يقبع إنسان هذه الجغرافيا تحت وطأة الجوع والإفقار والحصار والقصف والترهيب.

اللهم أبدل الحال بأحسن حال، وتلطَّف بإنسان الفاشر المغلوب على أمره، وكن له عوناً وسنداً.

آمين، آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى