ذنب الجغرافيا والعرق في منطق الجيش/الدعم السريع (تصفيات بالجملة)

منذ اندلاع الحرب السودانية في 15 أبريل، لم تعد الجغرافيا مجرد خريطة للسيطرة العسكرية، تحولت إلى معيار لتصنيف الأفراد وتصنيف ولاءاتهم قسرًا. فبينما توزعت مناطق السيطرة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، برزت ظاهرة اتهام الأفراد الذين ظلوا في مناطق سيطرة أحد الطرفين بالخيانة والتخابر لصالح العدو.
لكن هل يمكن اختزال البقاء في منطقة معينة باعتباره فعلًا مقصودًا يعكس الولاء السياسي؟
وكيف يمكن لفعل جغرافي—البقاء أو الرحيل—أن يُفسَّر كدليل على الخيانة أو الوفاء؟
هذه الاتهامات قضايا قانونية أو أمنية وتجليات لصراعات أعمق حول الهوية والانتماء، وتكشف كيف تتحول الحروب الأهلية إلى آليات لإعادة تشكيل المجتمع من خلال تصنيف الأفراد بناءً على عوامل قسرية لا علاقة لها باختياراتهم الفعلية.
من تبقّى في الخرطوم أو أم درمان أو مناطق غرب السودان الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، أصبح متهمًا ضمنيًا—أو صراحة—بالخضوع لهذا الفصيل والتعاون معه. وعلى العكس، من بقي في بورتسودان، ود مدني، أو مناطق الجيش السوداني، أصبح في نظر البعض متواطئًا مع السلطة المركزية..
هل يمكن لجريمة أن تُعرَّف بالموقع الجغرافي فقط، دون أفعال مباشرة تدل على التواطؤ الفعلي؟
كيف يتحول الأفراد الذين لا يملكون وسائل للفرار إلى متهمين بالخيانة لمجرد أنهم لم يغادروا؟
هل يملك الفرد القدرة على تغيير موقعه، أم أن قراره بالبقاء هو انعكاس لقيود اقتصادية، اجتماعية، وأمنية لا علاقة لها بولائه السياسي؟
في كل حرب أهلية، يُعاد تعريف مفاهيم مثل “الخيانة” و”التعاون مع العدو” وفقًا للمنطق السياسي والعسكري السائد. تصبح الحرب، كما يصفها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، أداة لإعادة تشكيل المجتمعات من خلال إنتاج خطابات جديدة تُعيد تصنيف الأفراد بناءً على قربهم أو بعدهم من السلطة.
نلاحظ إذ لم نكن ضالعين فيه بصورة أو بأخرى؛أصبح خطاب التخوين جزءًا من استراتيجية الحرب النفسية للطرفين. فبينما تتهم القوات المسلحة السودانية المدنيين الذين ظلوا في مناطق الدعم السريع بالتواطؤ، تُمارس قوات الدعم السريع نفس المنطق مع سكان المناطق التي تخضع للجيش.
لكن هذا الاتهام جزء من منطق طويل الأمد تمتد جذوره إلى تاريخ السودان الحديث. فمنذ الاستقلال، ارتبطت الدولة السودانية بمركزية معينة في تعريف من هو “الوطني” ومن هو “الخائن”، وفقًا للهيمنة السياسية القائمة.
يرتبط خطاب الخيانة في السودان أيضًا بالانقسامات العرقية والسياسية التي سبق أن غذّت الصراعات الداخلية. فكما كان يُنظر إلى سكان جنوب السودان قبل الانفصال على أنهم “عملاء” للتمرد الجنوبي، وكما تم توصيف أبناء/بنات دارفور في سنوات الحرب الأهلية بأنهم “طابور خامس” وأبناء/بنات جنوب كردفان، نجد اليوم نفس المنطق يُعاد إنتاجه:
سكان الخرطوم الذين بقوا تحت سيطرة الدعم السريع يُتهمون بأنهم متواطئون،حتى لو كانوا مدنيين لا حول لهم ولا قوة.
في المقابل، سكان بورتسودان أو مدن الشرق الذين يعانون من حكم سلطوي تحت سيطرة الجيش يتم تصويرهم كأتباع للدولة العميقة، رغم أنهم ليسوا بالضرورة مؤيدين فعليين لها.
هذا التصنيف القائم على الجغرافيا يخفي حقيقة أعمق: أن معظم الأفراد ليست لديهم خيارات حقيقية في ظل الفوضى. فبينما يهرب البعض، يظل آخرون لأن النزوح ذاته ليس خيارًا متاحًا لهم اقتصاديًا، اجتماعيًا، أو حتى لوجستيًا.
في كتابه عن العنف الرمزي، يوضح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو كيف أن السلطة تُمارَس من خلال القهر الجسدي وعبر إنتاج معانٍ اجتماعية تفرض تصورات معينة حول “المقبول” و”المرفوض”.
حيث البقاء في منطقة معينة ليس بمسألة جغرافية، أصبح دلالة على الانتماء السياسي المفترض، مما يؤدي إلى وصم اجتماعي قد يستمر حتى بعد نهاية الحرب.
إذ نجد أن الأشخاص الذين عاشوا في مناطق الدعم السريع قد يجدون أنفسهم غير موثوق بهم حتى بعد انتهاء الصراع، ويتم تصنيفهم ضمنيًا كـ”مشبوهين”.
على الجانب الآخر، الذين نزحوا إلى مناطق الجيش قد يُنظر إليهم كأشخاص امتلكوا “امتيازًا ما”، مما قد يجعلهم موضع ريبة لدى الفئات المهمشة التي لم تستطع الفرار.
هذا العنف الرمزي لا يقل خطورة عن العنف المادي، إذ يمكن أن يؤدي إلى استبعاد قطاعات واسعة من المجتمع من الحياة السياسية والاقتصادية بعد الحرب، بحجة أنهم “كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ”!
لكن ماذا بعد انتهاء الحروب؟!
يكون التحدي الأكبر هو تفكيك الخطابات التخوينية التي ترسخت خلال النزاع. في رواندا بعد الإبادة الجماعية، كان على المجتمع أن يواجه معضلة: كيف يتعايش الضحايا مع الجناة المحتملين؟
وكيف يمكن تجنب إعادة إنتاج دوائر الثأر والانتقام؟
سيتطلب تجاوز هذه الحقبة تفكيك مفهوم “الذنب الجغرافي”، بحيث لا يتم ربط الأفراد بجرائم لم يرتكبوها فقط لأنهم عاشوا في مناطق معينة خلال الحرب.
كما سيكون من الضروري تبني خطاب سياسي جديد يُعيد تعريف المواطنة بحيث لا تُختزل في المكان، بل في الفعل السياسي الفعلي.
ويجب خلق آليات للمصالحة تتجنب الوقوع في فخ محاكم التفتيش الجديدة التي تسعى لمحاسبة الناس بناءً على أماكن إقامتهم، لا على أفعالهم الحقيقية.
كما يجب أن تلعب المؤسسات الإعلامية والمجتمع المدني دورًا في تفكيك الصور النمطية حول “الخائن” و”العميل”، والتركيز بدلًا من ذلك على التحديات المشتركة التي تواجه المجتمع السوداني ككل..
كما نجد أن الجميع متورط في زمن الحرب؛عندما يبدو الحياد مستحيلًا، إذ يصبح الجميع متهمين إلى أن يثبت العكس. لكن في الواقع، معظم الأفراد لا يملكون ترف اختيار موقف سياسي واضح، بل تحكمهم الضرورات الحياتية والأمنية.
لذلك:فإن إعادة بناء السودان بعد الحرب يجب أن تبدأ بتفكيك خطاب الخيانة المبني على الجغرافيا، وإعادة تعريف المواطنة بطريقة تتجاوز ثنائية “معنا أو ضدنا”. فالحروب لا تنتهي فقط بوقف إطلاق النار، بل تنتهي عندما تتوقف المجتمعات عن إنتاج أعداء وهميين داخلها، وتبدأ في البحث عن مساحات مشتركة للعيش معًا من جديد..
محمد ودالسك