السودان: مأساة إنسانية وصمت عالمي مدوٍ
عندما تصبح الحرب وحشاً لا يرحم والعالم متفرجاً صامتاً

بقلم: ابن عوف أحمد
على معبر قسطل الحدودي، تحت لهيب الشمس اللافحة، تجلس هويدة محمد حسن محاطة بأطفالها الخمسة وطفلتين من أبناء أقاربها الذين لا تدري مصيرهم. إلى جوارها حقائب متهالكة تحمل ما تبقى من حياتهم السابقة. في عينيها الدامعتين تتجسد قصة رحلة جحيم استغرقت عشرة أيام من النهود بشمال كردفان إلى الحدود المصرية، رحلة اعتمدت فيها على كرم الغرباء لإطعام صغارها الذين كثيراً ما ناموا جوعى.
يسألها ابنها أحمد، البالغ من العمر ست سنوات، بصوت بريء: “ماما، هل نجونا من الجنجويد؟ وين بابا؟ ليه ما جا معانا؟” تحاول إخفاء دموعها فتجيبه: “نعم حبيبي، نجونا. بابا يدور علينا وحيلاقينا”، بينما في قرارة نفسها لا تعرف إن كان زوجها المفقود لا يزال حياً أم انضم إلى قائمة الضحايا التي لا تنتهي. تقول هويدة بصوت متقطع: “الوضع صعب جداً هناك. كل ما أريده لأطفالي هو أن يكونوا آمنين، وأن نحصل على مساعدة لنتمكن من إطعامهم”.
هذا المشهد المأساوي ليس استثناءً، بل واقع يتكرر يومياً على الحدود المصرية السودانية، حيث تستقبل مصر، رغم معاناتها الاقتصادية الشديدة، أكبر عدد من اللاجئين السودانيين في العالم، في ظل صمت عالمي مطبق تجاه كارثة إنسانية تتفاقم بوتيرة مرعبة. منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل عام ٢٠٢٣ بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، يعيش السودان كابوساً حقيقياً تعجز الأرقام عن استيعاب هوله. تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من خمسة وعشرين مليون شخص يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية العاجلة، فيما قُتل عشرات الآلاف من المدنيين ونزح أكثر من اثني عشر مليون شخص عن ديارهم. والرقم الأكثر إثارة للصدمة جاء من تقدير المبعوث الأمريكي السابق للسودان، الذي أشار إلى أن ما يصل إلى مائة وخمسين ألف شخص قد قُتلوا منذ بداية النزاع.
بحسب بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان، فإن الطرفين المتحاربين ارتكبا “مجموعة مروعة من انتهاكات حقوق الإنسان المؤلمة والجرائم الدولية، بما في ذلك العديد منها التي قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”. منذ أواخر شهر أبريل، تحولت ولاية غرب دارفور إلى موقع لبعض أسوأ الهجمات على المدنيين. وقعت هجمات واسعة النطاق من قبل قوات الدعم السريع والقوات المتحالفة معها، معظمها من الميليشيات العربية، استهدفت في المقام الأول السكان المساليت العرقيين. الجرائم المرتكبة في الجنينة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث قُتل والي غرب دارفور خميس أبكر الذي فضح جرائم قوات الدعم السريع.
أصبح العنف الجنسي سلاحاً منهجياً للحرب. أخضعت قوات الدعم السريع النساء والفتيات في المناطق الخاضعة لسيطرتها للعنف الجنسي على نطاق واسع، والزواج القسري وزواج الأطفال. تم توثيق مائة وعشرين حادثة عنف جنسي مرتبط بالصراع من أبريل ٢٠٢٣ إلى نوفمبر ٢٠٢٤، أثرت على ما لا يقل عن مائتين وثلاثة ضحايا، بينهم مائة واثنتان وستون امرأة وست وثلاثون فتاة. وصف الناجون مراكز الاعتقال التابعة لقوات الدعم السريع بأنها “مسالخ”، حيث تعرض المعتقلون للضرب حتى الموت والإعدام الفوري. استخدمت قوات الدعم السريع وحلفاؤها التجويع كطريقة حرب، وحرموا المدنيين من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة.
في خضم هذا الدم المسفوح، يقف رجلان يتحملان المسؤولية المباشرة عن تحويل السودان إلى جحيم، كل منهما محكوم بوهم الحكم وسكرة السلطة. تتناقل أوساط عائلة الجنرال عبد الفتاح البرهان رواية غريبة عن رؤيا رآها والده بأن ابنه سيحكم السودان. رؤيا عائلية بسيطة في ظاهرها، لكنها تحولت إلى لعنة تمزق وطناً بأكمله. من حلم الأب إلى جنون الابن، انفتح باب المأساة على مصراعيه، وصار الوطن ساحة لصراع رجل يرى نفسه مختاراً من السماء، بينما تغرق الأرض من تحته بالدماء.
منذ اندلاع الحرب، ظل البرهان يراوح في مربع الخداع السياسي، يتلون كل يوم بين خطاب وطني وشهوة سلطة. مرة يرفع شعار الدفاع عن الشرعية، ومرة يرفض التفاوض بدعوى الكرامة والسيادة، لكن الحقيقة العارية التي يعرفها الجميع أن ما يحركه ليس وعي الدولة بل وهم الزعامة، وسكرة العرش التي لا تفيق إلا على رماد المدن وجثث الأبرياء. يكرر الجنرال أمام الكاميرات: “العالم كله شهد هذه القوات المتمردة وهي ترتكب جرائم حرب”، كمن يريد أن يُقنع نفسه قبل أن يُقنع الآخرين. لكن الجرائم لا تُقاس بمن ارتكبها فقط، بل بمن صمت عنها أو ردّ عليها بوحشية أفظع. والبرهان، الذي تورط جيشه في حملات انتقامية عمياء، لم يكن بريئاً من الدم. التقارير الدولية تتحدث عن استخدام أسلحة محرّمة، وعن أطفال جُنّدوا في عمر البراءة ليُلقَوا في محارق الكبار. والجيش الذي يقوده البرهان لا يقاتل بمعزل عن الدعم الإقليمي والدولي، فهناك دول تمده بالسلاح والعتاد وتوفر له الغطاء السياسي، في استثمار جيوسياسي واضح لمصالح بعيدة عن معاناة الشعب السوداني.
في المقابل، لا يقل محمد حمدان دقلو “حميدتي” وهماً وطموحاً. الرجل الذي خرج من صحراء دارفور بميليشيات الجنجويد، يرى أن اللحظة مواتية أخيراً لتحقيق حلمه في حكم السودان بدعم أجنبي لا يخفيه. تقارير الأمم المتحدة والكونغرس الأمريكي تؤكد الدعم المباشر لقوات الدعم السريع بالأسلحة والتمويل من دول إقليمية، في استثمار جيوسياسي واضح لشراء نفوذ في السودان الغني بالموارد. حميدتي، الذي تتهمه الولايات المتحدة رسمياً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، يرقص على جثث المساليت في دارفور مدفوعاً بوهم أن القوة العسكرية والدعم الخارجي كافيان لشراء شرعية الحكم. هذا الرجل الذي حوّل قوات الدعم السريع إلى آلة إبادة منهجية، يحلم بحكم بلد دمرته قواته بنفسها.
ما يجمع بين الرجلين ليس فقط الطموح الجامح للسلطة، بل المماطلة الإجرامية في حل الأزمة. البرهان يماطل بحجة رفض التفاوض مع “المجرمين”، بينما قواته ترتكب جرائم مماثلة. وحميدتي يماطل بحجة “تحرير السودان من العسكر”، بينما يحوّل البلاد إلى ساحة إبادة جماعية. هذا التلاعب والمماطلة حوّل السودان إلى مسرح لتسوية حسابات شخصية على حساب أرواح الملايين، ومسرحاً لصراع إقليمي ودولي تُسفك فيه دماء السودانيين ثمناً لمصالح خارجية. كل يوم مماطلة يعني مئات القتلى والمغتصبات والأطفال المجندين والعائلات المشردة، لكن حلم الحكم عند الاثنين أعمى بصيرتهما عن حجم الكارثة التي يصنعانها. رغم كل هذا، يبقى الطرفان متمسكين بأوهامهما: البرهان برؤيا والده ودعم حلفائه الإقليميين، وحميدتي بأحلام السيطرة المدعومة من أسياده الأجانب، بينما السودان ينزف حتى الموت.
وسط هذه المأساة المروعة، يبرز عامل ثقافي يفاقم الأزمة ويسهل على العالم تجاهلها. الشخصية السودانية تتميز بالصبر والكتمان، وهي خصائص ثقافية عميقة تجعل السودانيين يتحملون المعاناة في صمت. هذا الصمت، رغم كونه قوة في ظروف طبيعية، يُستغل دولياً كمبرر لعدم التدخل. المجتمع الدولي يستخدم غياب “الصراخ العالي” من السودانيين كذريعة لتجاهل المأساة. هذا الطابع الثقافي ساهم في عدم وصول حجم المأساة الحقيقي إلى المجتمع الدولي بالشكل المطلوب، مما سهّل على القوى الدولية تجاهل الأزمة أو التعامل معها كأولوية ثانوية مقارنة بصراعات أخرى حيث تكون الأصوات أعلى والضغط الإعلامي أكبر.
ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد حرب أهلية، بل كارثة إنسانية تتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً. “السودان يعيش إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم” بحسب تقييم الأمم المتحدة، والصمت العالمي تجاه هذه المأساة ليس مجرد إهمال، بل تواطؤ في الجريمة. الفشل في التحرك العاجل لن يخون الشعب السوداني فحسب، بل سيخون الأسس ذاتها للقانون الدولي والمبادئ الإنسانية التي بُنيت عليها المنظومة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. العالم الذي تحرك بسرعة في أزمات أخرى، يقف اليوم متفرجاً على إبادة جماعية تحدث على مرأى ومسمع من الجميع، بينما هويدة وأطفالها وملايين مثلهم ينتظرون على حدود الأمل أن يستيقظ ضمير الإنسانية من سباته العميق.



