آسيا مدني.. انطفاء وهج الصوت وجمال الروح

فائز السليك
تمتلك خاصية جذب مغناطيسية إنسانية بذات جذب صوتها الفخيم الذي يشع جمالاً وطرباً ، فهي عفوية وتلقائية، محبة للناس، تحمل روحها لطفاً وحدة في ذات الوقت أو هي روح طفلة.
آسيا مدني!.
رحلت؟
لم أستوعب الخبر عندما وجدت رسالةً من صديقنا المشترك الزين أدروب، ارتبكتُ، هل ماتت آسيا؟ أفقتُ بعد ثوانٍ، ظننتُ أن الرسالة من آسيا تقول ماتت والدتها،لكن كيف تكون والدتها وتقول الرسالة أن آسيا هي من ماتت ؟
قرأتُ الخبر مرةً أخرى، لم أصدق، راجعتُ صفحتها على الفيسبوك. تلك كانت أطول فترة ينقطع التواصل منذ أن تعارفنا، كنا نتواصل من حينٍ إلى آخر، نثرثر ونتحدث في الهم العام،، وهو حبل الود الذي ربطني بها منذ أن عرفتها في عام ٢٠١٢ في القاهرة، بعد أن أخبرني الصديق الفنان أباذر عبد الباقي، ذات مرة بأنها طلبت منه تلحين أغنية!
استغربتُ الطلب، فكيف تطلب آسيا، من شخص مثل أباذر، أحد أفراد أعمدة فرقة عقد الجلاد الفنية ألحاناً، ومصدر دهشتي أن أباذر ينتمي لمدرسة فنية مختلفة، ومشروع ابداعي ما كنت أظنُ أن آسيا مهتمة به.
بالطبع كان رأي انطباعي منبعه صورة ذهنية مسبقة وضعتها لها، صورة تشبه المغنيات ” ذوات الحلاقيم العريضة” اللائي ظهرن في السنوات الأخيرة، متشابهات في الأصوات، وفي المضمون، وفي الذائقة والاختيارات.
لا تستهويني أغانيهن؛ وبالطبع لهن جمهورهن العريض، لكني لستُ من المعجبين بكثيرات منهن، فالغناء مزاج، وليس بالضرورة أن أكون أنا الأفضل ذائقةً أو أقل.
ثُمَّ قابلتُ آسيا وجهاً لوجه للمرة الأولى في مكانٍ كنت أظنها من آخر الأمكنة التي تذهب إليها مطربة غناء دلوكة.
للمفارقة جاءت ذات المكان تحمل دلوكتها وتتوسط مئات الشباب والشابات أيام ثورات الربيع العربي، كنا نتظاهر أمام السفارة السودانية بحي قاردن سيتي، في وسط البلد.كانت تهتف للحرية، وتزيد المتظاهرين حماساً، تعزف وتغني وترقص وتهتف، ومن يومها تعرفنا وتعارفنا وتوثقت العلاقات.
أصبحنا نتقابل في المظاهرات في غالب الأحيان، أو بيوت أصدقاء وصديقات مشتركين؛ أو في الأمسيات في مقاهي وسط البلد، كانت قهوة ” البرينس ” المفضلة لها في ذلك الوقت، تجدخا تتوسط مجموعة من الأصدقاء، كثيرون منهم/ن يتحدثون اليها بصراحة عن مشاكلهم، وتبذل هي ما تستطيع في سبيل حل مشاكل العديد من الشباب والشابات كأنها أمٌ رؤوم، فهي مقدامة وشهمة.
كنا نحضر بعضاً من حفلاتها في مراكز القاهرة الثقافية، حيث ينتظرها جمهورها الخاص من مصريين وسودانيين، وتكاد هي تعرفهم جميعاً، وأظنهم يعرفونها معرفة شخصية لصيقة. تغني الفلكور السوداني أحيانا، وتسحر الناس بعزفها المميز على ” الدلوكة ، ” والقرع” ثم ترقص رقصها الرشيق، وفجأةً ترفع صوتها الفخيم، فيزداد جمالاً في حضور ” سوداني الجوة وجداني” ” ووطن الجدود”.
تشعر بقشعريرة، وطرب داخلي، وحالة جذب صوفي، عندما تغني ” زينوبة.. جبال نوبة” ترقص الكمبلا بإيقاعٍ موزون، فتلهب المسرح طرباً، وترتفع الحرارة في كل المكان مهما كانت درجات برودة القاهرة، ثم تغني للجنوب، ترقص رقصة الشلك، أو النوير، أو الدينكا. ولا تنسى الشرق وايقاع السيرة، أو تغني بلغة البداويت، لتحلِّق أ غرباً ” القمر بضوي.. أنا شن بسوي”، وتأخذ الجمهور معها شمالاً ” أسمر اللونا”.
كانت آسيا، سفيرة الفلكور السوداني في القاهرة، لا يفتر اهتمامها بنشر التراث فوق مسرح الأوبرا، ، مكتبة الإسكندرية، كانت دائمة الحضور في مهرجان الأقصر، تظهر بزيها الأفريقي البهي، أو بثوبها الزاهي. لم تتوقف مساهماتها عند مسارح القاهرة بل انضمت إلى مشروع النيل، حيث يجتمع مغنون ومغنيات من احدى عشرة دولة يربطها شريان الحياة، يغنون بلغات تلك الشعوب، فكانت آسيا النجمة اللامعة لتلك المجموعة، وواسطة عقدها النضيد، تحمل الغناء الأفريقي وتسافر به بقية دول العالم، مرةً إلى الولايات المتحدة أو هولندا، أو ألمانيا.
كنتُ أقول لها ” انت فنانة ينقصك الانتشار في السودان” رأي يغضبها فتثور ثائرتها، فهي عنيدة ومعتدة بنفسها، تقول لي “فخورة بما أقدم وجمهوري في مصر يشرفني” وآسيا ومصر علاقة حب، تعشق القاهرة وناسها، مثلما احبها كل مصري تعرف عليها.
غابت نجمتنا المضيئة، ورحلت وسط غيوم الأحزان، و تركت آخر كلماتها على صفحتها في الفيسبوك عن حب الوطن ، ورفض الحرب وتداعياتها وانتهاكاتها، وتركت في نفوس أحبابها صوراً من الشهامة والمودة، والتواضع، ولا يزال يرن في صدى الصوت الفخيم، المعطون من ماء النيل، ومن رقة أهل الجزيرة.
لا أزال أذكر حين نظمنا مهرجانا اسميناه ” البحث عن وطن” ودعونا للتسامي ومحاربة العنصرية. ولا نزال نبحث عنه، عن السلام والوئام والتنوع، مثلما تفتقدك شوارع ومسارح المحروسة التي كانت لك وطناً وصارت لك مرقدك الأخير، كأنه الحب فتعلقت روحك بأرضها.
اللهم ارحم آسيا موسى، واغفر لها.