الإعلام السوداني.. مهنة على حافة الموت

بقلم ابن عوف أحمد
منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، شهدت الساحة الإعلامية السودانية انهياراً منظماً لا يقل درامية عن الحرب نفسها. لم تعد الصحافة مهنة يمارسها الإنسان تحت ظل القانون، بل أصبحت عملاً يستوجب الشجاعة النادرة أو الجنون أحياناً. الصحفي السوداني محاصر بين واقع مرير: الرصاص المباشر في الشارع، والقمع المنظم من السلطات الرسمية والفصائل المختلفة.
الحرب الموازية على الإعلام لا تقل تدميراً عن الحرب على الأرض. كلا الطرفين اتخذ موقفاً حازماً: إما أن تكتب معي، أو لا تكتب على الإطلاق. من ينتقد الجيش يُتهم بالعمالة، ومن يوثق انتهاكات الدعم السريع يُشبّه بمتعاون مع السلطة العسكرية. الصحافة الحرة، وهي أساس أي ديمقراطية، أصبحت ترفاً لا يستطيع أحد تحمله.
الضحايا اليوميون للحرب على الإعلام كثيرون. تقارير نقابة الصحفيين السودانيين تشير إلى سقوط عشرين صحفياً منذ بداية الحرب حتى نهاية 2024. المصور عصام حسن من تلفزيون السودان اغتيل في منزله بأم درمان، ودُفن في فناء البيت. الصحفية سماهر عبد الشافع من إذاعة زالنجي فقدت حياتها تحت وابل من القذائف وهي في معسكر نزوح. الناشط الإعلامي “شو تايم” اختفى عن الأنظار في الفاشر بعد قذيفة استهدفت منزله. والصحفية حنان آدم وأخوها اغتيلا في ود العشا. هذه الأسماء هي فقط النقطة المرئية من جبل جليدي من الانتهاكات التي تسود في الظل.
المعتقلات تحكي قصة أخرى من الرعب. صحفيو قناة الخرطوم – مكي عبد الوهاب، هشام الخاتمي، ومنتصر علي – لا أحد يعرف مصيرهم النهائي. ماتوا تحت التعذيب في سجون الدعم السريع، وأسرهم لا تزال تبحث عنهم. في جانب آخر من الحرب، الصحفي نادر خلف الله اعتُقل لمجرد تعليق عابر انتقد فيه أداء الجيش. رأيه الشخصي تحول إلى تهمة أمن قومي. النساء لم يسلمن؛ الصحفية فاطمة علي سعيد تعرضت للتحرش في منزل أسرتها من قبل عناصر الدعم السريع.
لكن القمع الجسدي ليس الأكثر خطورة. ما يحدث الآن هو حرب على الوعي نفسه. التراخيص تُسحب، والمذيعون يُمنعون من البث، والصحفيون يُفقدون مصادر رزقهم بقرارات إدارية. المذيعة لينة يعقوب من قناة العربية وقعت ضحية هذا النظام. تم سحب ترخيصها بعد تقارير اعتُبرت “تشويهاً إعلامياً” لأنها لم تنحز لأي طرف من الأطراف. في بيئة حربية حيث المحايدة تُعتبر خيانة، كانت مصيرها محتوماً.
الفراغ الإعلامي الذي خلفه القمع امتلأ بالأكاذيب. شائعات بلا تحقق، ورويات انتقائية تخدم رغبات السلطة الحاكمة. لا صور موثوقة، لا تحقيقات حقلية، لا صحافة استقصائية. الجرائم تُرتكب في الظلام، والشهود يختنقون بالخوف.
أما الصحفيون الذين نجوا من الرصاص والاعتقال، فقد اختاروا طريقاً أخرى: المنفى. آلاف منهم يعيشون الآن في القاهرة وأديس أبابا وكمبالا وعواصم أوروبية. يكتبون بأسماء مستعارة، ينشرون محتوى تحت أسماء وهمية، ويتجنبون أي شيء قد يكشف هويتهم الحقيقية. الخوف ليس عليهم وحدهم، بل على أسرهم التي بقيت خلفهم. هذا المنفى، سواء أكان داخل البلد أو خارجه، يمثل انتصاراً آخر للطرفين: لقد أسكتوا الأصوات المزعجة.
النتيجة حتمية وكارثية. طلاب الإعلام يتخلون عن تطلعاتهم المهنية. الأجيال الجديدة لن تعرف ما هي الصحافة الحرة، وما هو دور الإعلام في المجتمع. وتاريخياً، الدول التي فقدت صحافتها المستقلة لم تستعد الديمقراطية بسهولة. تحتاج عقوداً من الجهد والألم.
لكن هناك من يصمد. في الظلام، يكتب أولئك الذين يرفضون الاستسلام. يوثقون الحقائق بمخاطرة شخصية، يحافظون على ذاكرة البلد، يرفضون أن تُنسى الجرائم. قد يُقتل الصحفي، قد يُسحب ترخيصه، قد يُرغم على الهروب، لكن الحقيقة تبقى. والكلمة المكتوبة في العتمة، مهما كانت صعوبة ظروفها، لا تزال أقوى من الصمت المفروض.