الوراقون.. شبكة مصالح تتلاعب بصادر الصمغ العربي في السودان

السودان/ معاذ ايوب/ 8 سبتمبر 2025 –
(إسم مستعار لتواجد معد التحقيق في مجال بيع وتصدير الصمغ العربي)
يتجول يحيى سالم، حائراً بين البنوك التجارية ووزارة التجارة لاستخراج شهادة صادر لشحنة صمغ عربي، تتابعه نظرات الموظفين هنا وهناك باستغراب دون تقديم الخدمة المطلوبة، فهو حديث عهد في هذا المجال، الذي تسيطر عليه مجموعة تعرف بـ”الوراقين” ويمثلون كلمة السر للدخول إلى عالمه.
سبق وأن عمل يحيى سالم، في مجال بيع الصمغ العربي على المستوى المحلي، لكنه أراد أن يجرب التصدير إلى الخارج بعدما توقع أن يكون بلا تعقيدات، إلا أن واقع الحال كان مختلفاً بل ومحبطاً له.
يقول لـ(دروب) “بعد بحث مضني اتضح لي أن هناك جهة أخرى يحول إليها المُصدر لإتمام إجراءاته وإلا تظل محلك سر، لا تتقدم خطوة. عرفت أن الوارقين، هم كلمة السر في أي عملية، وركيزة أساسية في الدورة المستندية لعمليات التصدير”.
رافقت “دروب” سالم يحيى، خلال رحلة البحث عن مستندات صادر لكمية الصمغ العربي التي اشتراها من المنتجين في ولاية النيل الأزرق، بعدما كلفه الترحيل والتخزين مبلغ يتجاوز ما يعادل (25) ألف دولار في ظروف بالغة التعقيد، حتى وصوله بورتسودان.

انتبه معد التحقيق إلى أن بعض الموظفين بوزارة التجارة ببورتسودان (العاصمة الإدارية الجديدة) يقومون بتحويل طالبي الخدمات إلى ما يُعرف بـ”الوراقين” والذين يتخذ بعضهم من سور الوزارة مكاناً لعملهم وبعضهم يوجد بالسوق الكبير ببورتسودان وبعضهم بالميناء البحري.
أما سالم فيقول أنه انتبه لبعض الموظفين يكتبون أسماء ورقم هاتف على ورقة ما ويضعونها في يد طالب الخدمة، وهي ذات الورقة التي تلقاها في نهاية اليوم بذات التفاصيل.
يقول سالم: “تواصلتُ مع صاحب رقم الهاتف ووصف لي مكانه بالميناء وأعطاني موعد، وحينما قابلته كان رجلاً في بداية العقد السادس من عمره يبدو عليه أنه كان موظفاً حكومياً فهو يحفظ الإجراءات عن ظهر قلب. أخبرني أنني لا أملك الأوراق المطلوبة للتسجيل كما أنني لا أمتلك شركة لها سجل في المسجل التجاري”.
أخبر “الوراق”، سالم يحيى، بأن لديه مورد أجنبي يرغب في شراء كمية الصمغ العربي التي بحوزته وتم الاتفاق على السعر وهو (4,300) دولار للطن المتري، لكن على سالم يُكمل الإجراءات المطلوبة والتي قد تتخذ شهوراً حتى يتمكن من التصدير، وحينها قد يجد المورد الأجنبي مصدراً آخر يشتري منه الكمية المطلوبة.
وتعقدت الأمور أمام سالم يحيى إلا أن الوراق العجوز اتضح أنه يملك حلاً سحرياً ينقذه من تلك التعقيدات، فهو يحوز على كل المستندات الرسمية التي تؤهله لعملية التصدير الرسمي دون تأخير ولكن على “سالم” أن يدفع رسوماً إضافية لم يضعها في الحسبان.
من هم الوراقين
أوضح المخلص الجمركي مازن فتحي، أن “الوراقين” يمثلون عدة فئات منهم “موظفي دولة سابقين سماسرة أو موظفي بنوك أو مخلصين جُمركيين، يجمع ما بينهم الخبرة في إجراءات الصادر والعلاقات الواسعة مع موظفين حاليين بوزارة التجارة والغُرفة التجارية والبنوك”.
وأضاف أن “العمليات تكتمل بعد تحديد مبلغ مالي معين بالاتفاق مع الشركة المصدرة أو التُجار أصحاب البضاعة لانجاز الخطوات المطلوبة في اجراءات الصادر. وفي حالة تم استخدام أوراق شركة أخرى لإتمام عملية التصدير تحصل الشركة صاحبة الأوراق على مبلغ يُحدد بناءً على قيمة الحصيلة، ابتداءًا من 50 جنيه سوداني مقابل كل ألف دولار حيث تُعرف هذه المعاملة بـ(بيع الأوراق).
ويعود سبب لجوء الشركات أو التُجار إلى “الوراقين” لعدم معرفتهم بالإجراءات أو طلباً لسرعة الانجاز للإجراءات والأوراق المطلوبة وقد يقوم الموظف بتوجيهك بالذهاب ألى أحد السماسرة او موظف معين ليختصر عليك الزمن والمجهود وفي نهاية الأمر تعود الأوراق مرة ثانية للموظف نفسه. إنها “شبكة علاقات تخدم مصالح أعضاءها الشخصية” على حد تعبير المخلص الجمركي.

ملايين خارج السجلات الرسمية
ومن خلال تتبع نشاط الوراقين توصل التحقيق إلى وجود فاقد يصل الى ما يقارب (220,300,000) مليون دولار، من قيمة الصمغ العربي الذي تم تصديره في العام 2024، لم تظهر في السجلات الرسمية.
وكان بنك السودان المركزي أعلن أن قيمة ما تم تصديره من الصمغ العربي لعام 2024 البالغ كميته (70,323) طن متري. بلغت (82,207) مليون دولار، وهو ما لا يتوافق مع الأسعار العالمية المعروفة لهذه السلعة الإستراتيجية حيث يبلغ متوسط سعر طن الصمغ العربي في موسم ذروة الانتاج حوالي (4300) ألف دولار.
تحايل على سياسات البنك المركزي
وفقاً لمصادر بالنظام المصرفي فضلت حجب هويتها لأنها غير مخولة بالحديث لوسائل الإعلام، فإن بعض الشركات المصدرة “حكومية وقطاع خاص” تقوم في محاولة منها للتحايل على سياسات البنك المركزي السوداني بالاتفاق مع الجهات المستوردة على دفع الجزء الأكبر من قيمة البضائع خارج النظام المصرفي السوداني. وهنا يأتي دور “الوراقين حيث يقومون باستخراج الفواتير المبدئية من التجار أو الشركات المالكة للبضاعة باسم الجهة المصدرة بأسعار أقل من القيمة المتوسطة المعروضة في السوق العالمي والمتفق عليها مع الجهة المستوردة”، إضافة الى تخفيض السعر.
وأضاف أحد المصادر “مثلا يُكتب على استمارة الصادر أنه تم الاتفاق بين الجهة المصدرة والمستوردة على (2000) دولار للطن المتري من سلعة الصمغ العربي، ليتم بعد ذلك تجهيز استمارة الصادر بناءً على هذه الأسعار واعتمادها من وزارة التجارة والغرفة التجارية والبنك صاحب استمارة الصادر، قبل أن يأتي دور وزارة التجارة في اعتماد الفواتير المبدئية وإبرام عقد الصادر بالرغم من علمها بأن هذه الأسعار لا تتوافق والأسعار العالمية والمحلية المعروفة”.
وفي السياق أكد العضو السابق بلجنة النقد الأجنبي ببنك السودان المركزي، أمين بودا، مسؤولية وزارة التجارة والغرفة التجارية على مدى صلاحية وسلامة اجراءات وعقود الصادر.
وقال في تصريح لـ(الدروب) إن “عمليات تصدير الصمغ العربي تخضع لتسلط أفراد يعملون في جهات حكومية مثل شرطة الجمارك وحرس الحدود، وموظفين في الدوائر الحكومية ذات الصلة بتجارة الحدود، تلتقي مصالحهم مع اهواء المهربين والمتهربين من الضرائب وعوائد الصادر حيث يتم تهريب البضائع على مرأى ومسمع كل هذه الجهات” حسب قوله.
وأشار الى دور الغُرفة التجارية والشُعب المختصة في محاباة بعض التجار والشركات من خلال تقديم شركات بعينها للمعارض الدولية على أنها من أكبر الشركات في السودان.
وكان البنك المركزي قد حدد في منشور السياسات المصرفية للعام بالرقم (1/2025) عدة مواد منظمة لعمليات الصادر حيث ينص المنشور على صيغتين تجاريتين لاستخدام حصيلة الصادر، من خلال استيراد البضائع المختلفة وفق الضوابط المنظمة لعمليات الاستيراد، وبيع الحصيلة للمصرف المصدر أو أي مصرف آخر.

تأثير الحرب على انتاج الصمغ العربي
يرى د. عامر عثمان عبد اللطيف، مدير مشتروات الصادر في الشركة التجارية الوسطى (CTC) وهي شركة مصدرة للصمغ العربي، أن تغير سلسلة الامداد اثر على كميات الصمغ التي تم تصديرها خلال السنتين السابقتين “فترة الحرب”، لعدة أسباب تتمثل في صعوبة ترحيل العمالة من كردفان ودارفور إلى مناطق النيل الأزرق “ثاني أكثر المناطق انتاجا” حيث يقل فيها وجود العُمال المهرة لطق وحصاد الصمغ العربي.
كما منعت الحرب انتاج الصمغ في اقليمي كردفان ودارفور أو قللت من الكميات الواصلة للموانئ السودانية، وفق عامر.
تمثل كردفان ودارفور أكثر المناطق انتاجا للصمغ العربي في السودان، وتقوم الشركات الكبيرة المصدرة للصمغ بتوكيل بعض صغار التجار لشراء المحصول من مناطق الانتاج بأسعار زهيدة وتجميعه في مخازن بمدينتي كوستي بولاية النيل الأبيض والدبة بالولاية الشمالية.
وذكر عامر أن شح المواد البترولية وانعدام الأمن، دفعت كثير من الشركات والتجار الى تهريب الصمغ الى تشاد وأفريقيا الوسطى من مناطق كردفان ودارفور، وبيعه بأسعار أقل من السعر العالمي.
رأى عامر أن الاجراءات المعقدة لدى بنك السوداني المركزي في عملية الصادر وللإيفاء بالعقود المبرمة عند اشتعال الحرب في العام 2023، ساعدت في عملية تهريب الصمغ العربي.
وأشار إلى حظر بنك السودان عدد كبير جدا من الشركات لعدة أسباب منها عدم الوفاء بالعقود المبرمة عند بداية الحرب والتهرب من إعادة حصائل الصادر ودفع الضرائب المترتبة على عملية التصدير.
وتابع “نتيجة لكل ما ذكر اعلاه خرجت كثير من الشركات من السوق”، موضحاً أن الشركات حاولت الاستفادة من فارق أسعار صرف العملة حيث بلغت قيمة الدولار عند بداية الحرب في ابريل 2023 (570) جنيه، وتواصل ارتفاع قيمته إلى أن وصل (3000) في منتصف 2025.

وكان د.عامر قد توصل في الدراسة التي أجراها بعنوان “أثر سياسات الصادر على الميزان التجاري بالتركيز على صادر الصمغ” التي نشرتها كلية الاقتصاد بجامعة دنقلا عام 2019، إلى الدور الكبير لسياسات الصادر المشّرعة من قبل بنك السودان في التأثير على عمليات تصدير أو تهريب الصمغ العربي.
كما توصل إلى أن بنك السودان ووزارة التجارة في محاولة منهما لاستعادة حصائل الصادر ومحاربة التهرب الضريبي وقعوا في فخ الشركات وتجار العُملة حيث اتجهت الشركات لتحويل جزءًا كبيرًا من الحصائل خارج النظام المصرفي السوداني، ما ساهم في انتعاش تجارة العُملة بالسوق السوداء واختلال الميزان التجاري.
وفي العام 2021 نظرت محكمة جنايات الخرطوم شمال في عدد من البلاغات بتهم الإضرار بالاقتصاد، إذ وجهت تهم تتعلق بالتهرب من دفع حصائل الصادر، والتهرب الضريبي والتهرب من الزكاة، لأكثر من (52) شركة واسم عمل وذلك بعد توقيف الشرطة لـ 4 متهمين بينهم سمسار بحوزته (18) شهادة منشأ ومستندات (3) شركات ومواجهتهم ببلاغات جنائية بقسم شرطة الخرطوم شمال، بحسب ما نشرته وسائل إعلام محلية، وقتها.
تعد سلعة الصمغ العربي من أهم المحاصيل النقدية في البلاد حيث يعتبر السودان المنتج الأكبر لهذا المحصول بإنتاج حوالي 80% من الانتاج العالمي وهي إحدى الصادرات الزراعية الرئيسية في السودان، وبلغت قيمة صادراته في العام 2022 ما يصل إلى (183) مليون دولار، ويعمل في هذا القطاع أكثر من (5) ملايين نسمة في (13) ولاية مختلفة يمتد عبرها حزام الصمغ العربي داخل السودان في مساحة تبلغ 500 ألف كيلومتر.



