تقارير

الحج في السودان.. اختلاسات متوارثة تحت أستار الكعبة

تقرير/ مرتضى أحمد 4 سبتمبر 2025 –

قبل لحظات من صعوده إلى الباخرة التي ستنقله إلى المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج، كان الحاج السوداني مهتدي أحمد، ملئ بسعادة غامرة وفي مخيلته أنه مقبل على سياحة دينية وروحية تنسيه مرارات الحرب التي عاشها في بلاده على مدى عامين متواصلين، لكنه اصطدم بواقع مماثل لما يشهده وقت الصراع المسلح، إذ لم يجد الطعام الكافي والسكن اللازم، ووسائل النقل، رغم أنه دفع القيمة المالية لهذه الخدمات مقدماً، إلى مجلس الحج والعمرة الحكومي في السودان.

دفع مهتدي مبلغ (11,403) مليون جنيه سوداني، والتي تعادل قيمتها نحو(19) الف ريال سعودي، وهي التكلفة الكلية التي حددها المجلس الأعلى للحج والعمرة في السودان، لكل حاج سيسافر عن طريق النقل البحري للعام الحالي 2025، شاملة كافة الخدمات بما في ذلك المواصلات الداخلية والسكن في الفنادق والطعام، والهدي الذي يتم ذبحه.

بينما دفع الحجاج السودانيين الذين تم سفرهم عن طريق الطيران “الجو” مبلغ( 12,553) مليون جنيه سوداني، نحو (20) الف ريال سعودي، وهي تكاليف مضاعفة لحج العام السابق، والذي كانت فيه الرسوم الكاملة في حدود (6) مليون جنيه سوداني، وفق البيانات الرسمية لمجلس الحج والعمرة في السودان، والذي عزا ارتفاع الكلفة للموسم الحالي إلى تراجع سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الريال السعودي.

توزع هذه المبالغ على الخدمات المقدمة، حُدد مبلغ(165) ريال مقابل الوجبات في اليوم (ثلاث وجبات في اليوم، 55 ريالا لكل وجبة) بحسب ما افاد به حجاج، ومبلغ(720) ريال لشراء الهدي وفق ما ذكره مجلس الحج والعمرة في يونيو الماضي، ودفع الحجاج قيمة كل هذه الخدمات مقدماً للسلطات السودانية المشرفة على عملية الحج والعمرة.

أيام من جحيم

رغم التكاليف العالية للحج هذا العام والتي كانت مثار احتجاج واسع في السودان، لم ينعم الحاج مهتدي أحمد بسياحة دينية وروحية كان يتطلع إليها، وبدلاً من ذلك عاش 4 أيام من جحيم في مشعر منى بالأراضي المقدسة، وواجه خلالها معاناة غير مسبوقة، بسبب ضعف الطعام والسكن والترحيل الداخلي، وفق ما يرويه لـ( دروب).

يقول مهتدي “قُدمت لنا وجبات عبارة عن فول مصري قليل خالي من أي شيء وقطعة بيض واحدة، وقليل من الشعيرية، وسمعنا أن هذه الوجبات توزع مجانا كوقف خارج الخيام، وأحضرها لنا المشرفين بدلاً من شراء طعام جيد كما ينبغي”.

وجبة طعام قُدمت للحجاج السودانيين

كان السكن في مشعر منى سيئاً للغاية، إذ لم يستأجر مجلس الحج والعمرة خيام كافية لسكن الحج خلال فترة أربعة أيام يقضونها في منى، إذ خصص مخيم واحد لكل(4) الاف شخص، إذ وضع (300) شخص في خيمة صغيرة طولها اقل من خمسون متراً وعرضها (6) أمتار، مما تسبب في زحام شديد أثناء النوم والمقيل، حسب مهتدي.

ويضيف “لم تكن هناك دورات مياه  كافية للحجاج السودانيين، خُصصت (20) دورة مياه لكل 2000 شخص، وكان الحجاج يضطرون بصورة متكررة إلى تسلق الجبال لقضاء حاجاتهم، أو الذهاب إلى مخيمات مخصصة لحجاج من دول أخرى. كان سكن الحجاج السودانيين الأسوأ مقارنة بحجاج الدول الأخرى رغم أنه يدفعون تكاليف أعلى عن كثير من بلدان العالم”. وهي معلومات أكدها حاج آخر يدعى عبد الرحيم سليمان.

شبهات فشاد

تلك الرواية تفتح الباب واسعاً أمام شبهات فساد صاحبت عملية الحج في السودان لهذا العام، نظرا لوجود فارق كبير في قيمة الوجبات المقدمة، والمبالغ التي تحصلها مجلس الحج والعمرة في السودان، من الحجاج، وفق ما يراه عمر دياب وهو برلماني ومراقب سابق لشؤون الحج والعمرة في السودان.

يقول دياب لـ(دروب) إن قيمة الوجبة المقدمة للحجاج عندما كانوا في منى لا تصل 20 ريال، من واقع خبرته السابقة في الإطعام في الأراضي المقدسة، ففي المملكة العربية السعودية عشرون ريال تعادل قيمة وجبة فاخرة من الفراخ واللحوم والمشروبات، مما يعني أن مجلس الحج والعمرة حقق فائضاً مالياً كبير من بند الوجبات، هذا يمثل فساد وينبغي إعادة الأموال إلى أصحابها ومحاكمة المتورطين في هذه الجريمة.

ووفقاً لبيانات مجلس الحج والعمرة في السودان، بلغ عدد الحجاج الذي وصلوا إلى الأرضي المقدسة تحت إشرافه هذا العام 11500 حاج وحاجة. يشير عمر دياب إلى أن العمليات الحسابية البسيطة تظهر وجود فائض بنحو(7,590) ملايين ريال سعودي، من الوجبات خلال 4 أيام فقط تلك المدة التي قضاها الحاج في مشعر منى، حيث يحتسب مبلغ 105 ريال سعودي فائض من وجبة كل حاج، مضروبا على العدد الكلي للحجاج، والمدة التي كان يقدم فيها طعام غير جيد.

ويشير عمر إلى معلومات متداولة، تناولت عملية شراء الهدي بمبلغ (420) ريال لكل حاج، في حين أن مجلس الحج والعمرة تحصل مبلغ(720) ريال للهدي، مما يكشف عن فائض يصل الى ملايين بالريال السعودي، يقول “تمكنا من اثبات فساد كبير في بند الهدي خلال مواسم الحج السابقة، لذلك يجب على الدولة فتح تحقيق في هذا الجانب”.

هذا التحليل يتفق معه عبد الرحيم سليمان أحد حجاج هذا العام الذي قال لـ(دروب) “الوجبات المقدمة في منى كانت مخجلة وربما لا تتعدى قيمتها 10 ريالات سعودية، ينبغي تعويضنا عن كل هذا التعب، وإعادة المبالغ الفائضة إلينا”. بالطبع تعكس هذه الممارسة تجاوزات مالية واضحة”. ويكشف أنهم كانوا يذهبون إلى الصلوات سيراً على الاقدام، طوال فترة بقاءهم في مكة المكرمة، رغم دفعهم مبالغ مالية نظير ذلك، مما يتطلب مساءلة الجهات المسؤولة عن هذه المبالغ.

حجاج سودانيون ينامون على الأرض

محمد عبد الكريم وهو سوداني ذهب إلى الحج العام الماضي قال لـ(دروب) “عانيت نفس المشكلات عند حجي السابق، كانت هناك مشكلة في الطعام والمواصلات والسكن، أما خراف الهدي فلا نراها ولا ندري بكم يشترونها، إنه فساد أو سوء إدارة إذا احسنا الظن، ويجب أن يُوضع له حد من قبل الدولة”.

مزاعم يؤكد صحتها صاحب وكالة سفر تحدث لـ(دروب) وطلب عدم ذكر اسمه يقول :”ليس الطعام فحسب، بل السكن في الفنادق، إذ يضعون عدد أكبر من الأسرة في الغرفة أكثر مما ينبغي، ويشترون خراف بأسعار أقل من المتحصل من الحجاج، ويصطحب بعض المسؤولين بالحج أقاربهم مجانا، هذا فساد يتطلب تحقيق واسع”.

حملات مغرضة

المجلس الأعلى للحج والعمرة نفى في بيان صحفي في يونيو الماضي، تلك المزاعم واعتبرها بمثابة حملات مغرضة ومعلومات مضللة لا تعكس الواقع الفعلي لأدائه، فأموال الحج تُدار وفق خطة محكمة أجازها مجلس الوزراء، وقال إن “الوجبات مقدمة من شركات مرخص لها بالعمل من المملكة العربية  السعودية وتطبق معايير صارمة، وهم تعاقدوا معها، أما الهدي بلغ سعره 720 ريال وهو صك موحد للجميع، وتم سداده عبر نظام المسار الالكتروني السعودي”.

وبحسب مراقب الحج السابق عمر دياب فإن التجاوزات في الحج السوداني متكررة تحدث سنوياً، ودائما ما تحدث في بنود الأكل والمواصلات والسكن والهدي، إذ تُقدم هذه الخدمات بجودة أقل مما ينبغي. يقول “عدم محاسبة المتورطين في هذه الجرائم سبب أساسي في تكرارها، في معظم الحالات اكتفت الحكومة بإقالة المسؤول من منصبه، وتركه يستمتع بالأموال المختلسة، مثلما حدث في قصية مدير الحج والعمرة سابقا المطيع محمد أحمد، الذي أقيل ولم يحاسب رغم ثبوت فساد ضده”.

واعتبر أن الحل الأمثل لقضية تجاوزات الحج والعمرة هو خروج الدولة نهائياً من تنظيمه على أن يُسلم إلى شركات خاصة مؤهلة وفق عطاءات واضحة وعقود قوية تضمن تقديم خدمات الحج والعمرة بصورة احترافية، مع وضع شروط جزائية صارمة لأي مخالفات للشروط، وفي ذلك ضمان للمال العام المُبدد سنويا، وما يترتب على ذلك من معاناة للحجاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى