مصابو حرب السودان.. جراح منسية تحت صخب البنادق

دروب 17 أغسطس 2025 – يتوكأ على عصاتين للتحرك في مساحات محدودة وسط حيه السكني بمدينة أمدرمان، في محاولة لِلتَكَيُّفِ مع حياته الجديدة بعدما تسببت قذيفة مدفعية في بتر إحدى قدميه، هكذا انتهى المطاف بالشاب السوداني رامي الهادي، عقب رحلة طويلة مع الألم استمرت لما يقارب العامين إثر وقوعه ضحية لعمليات القصف العشوائي المبادل بين الجيش وقوات الدعم السريع وسط المناطق المدنية.
تخرج رامي حديثاً في الجامعة، وبدأ يتلمس طريقه إلى سوق العمل وهو مثقل بأحلام عريضة يرغب في تحقيقها خلال مستقبله القريب، قبل أن تندلع الحرب في بلاده، وتُبدِد كل شيء، وصار حبيس المنزل بلا مصدر كسب مالي، تحاصره نيران القتال وشظف العيش، بينما ظلت جراحه تنزف ولم تجد من يضمدها، حسب ما يرويه بأسى لـ(دروب).
خلال الحرب التي اندلعت في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، قُتل ما يزيد عن 20 ألف مواطن، وفق حصيلة أصدرتها منظمة الصحة العالمية في سبتمبر من العام 2024م، وهي لا تعكس الرقم الفعلي للضحايا، وربما تمثل من وصلوا المستشفيات فقط، بينما أصيب أكثر من 26 ألف شخص، بحسب إحصائية غير رسمية.
تملك وزارة الصحة السودانية إحصائية بعدد المصابين من المدنيين جراء الحرب الحالية، لكنها لا تغطي جميع الضحايا لأن بعضهم لا يتلق الرعاية الطبية في المستشفيات، وآخرين أصيبوا في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع يصعب حصرهم من جانبها، ففي المجمل عدد المصابين كبير جداً، وفق توصيف مدير الطب العلاجي في الوزارة د. المغيرة عبد الله الذي تحدث مع (دروب).

ورفعت الإصابات خلال الحرب الحالية عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في السودان، بحسب ما أعلنته الأمين العام لمجلس الأشخاص ذوي الإعاقة في ولاية البحر الأحمر، آمنة عبد القادر خلال تصريح لها في مارس 2024م، مشيرة إلى صعوبة تحديد حصيلة دقيقة، لكن العدد أصح كبيراً. ووفق آخر تعداد سكاني أجري في عام 2008، فإن عدد الأشخاص ذوي الإعاقة بلغ نحو 1.985.854 بنسبة 4.8 في المئة من إجمالي سكان البلاد المقدر وقتها بـ39.2 مليون نسمة.
وخلقت الحرب واقعاً قاسياً للأشخاص ذوي الإعاقة في البلاد، حيث دمرت المشافي والمؤسسات التعليمية الخاصة بهم، وخرجت كبرى مصانع الأطراف الصناعية في العاصمة الخرطوم عن الخدمة، مع غياب تام لمراكز الأطراف الصناعية في إقليمي كردفان ودارفور، مما وضع المصابين الذين بترت أطرافهم أمام تحد كبير.
جراح تنزف
كُتبت لآلاف المصابين النجاة من الموت، لكن ظلت جراحهم تنزف بالمآسي وهم في طي النسيان تحت صخب البنادق والمدافع، حيث تبدأ معاناتهم بصعوبة الحصول على الرعاية الطبية جراء الانهيار شبه الكامل للخدمات الصحية في البلاد، إذ خرجت 70 بالمئة من المستشفيات في ولايات الخرطوم ودارفور وكردفان عن الخدمة، بحسب وزارة الصحة السودانية، بينما تبلغ المأساة ذروتها مع الذين وصلت إصاباتهم إلى بتر أجزاء من الجسد، مثلما حدث مع رامي الهادي.
أصيب رامي في 11 ديسمبر 2023م في منزله بضاحية الثورة في مدينة أمدرمان شمالي العاصمة السودانية، خلال قصف مدفعي نفذته قوات الدعم السريع على المنطقة التي تقع ضمن نطاق السيطرة الميدانية للجيش، حيث سقطت ثلاث قذائف مدفعية في ذات اللحظة، اثنان منها انفجرت في منزلين بجواره وقتلت شخصاً وأوقعت عدد من المصابين، وأصابت الثالثة مسجداً بالقرب من رامي، وتسبب تطاير الشظايا في تمزيق قدمه اليسرى وبترها من أعلى الركبة بقليل.

يقول “نُقلت إلى مستشفى النو في أمدرمان، كانت صدمة كبيرة عندما أبلغني الطبيب بضرورة بتر رجلي نظراً تهشم شديد للعظام، لكني استسلمت للقدر، وقلت له لا مانع. كانت فصيلة دمي نادرة وصعب نقل دمي لي على مدار يومين، بعدها أجريت لي العملية الجراحية وتكللت بالنجاح، لكن خلال أسبوع فقط أمروني بالخروج إلى المنزل نتيجة اكتظاظ المستشفى بالمصابين، وقد تحملت كامل التكاليف المالية للعلاج، باستثناء قليل من الأدوية يوفرها متطوعون مجاناً”.
وفي المنزل بدأ رامي جولة أخرى مع الألم حيث واجه صعوبات كبيرة في التئام الجرح؛ بسبب ضعف الرعاية الطبية، إذ تعرض للالتهاب بشكل متكرر، وبات ينزف لمدة تقارب العامين، وخلال تلك الفترة كان يعاني في توفير مبالغ الأدوية والمعاش على حد سواء، ولم يجد مساعدة من جهة حكومية أو تطوعية، وكانت عائلته وأصدقاؤه هم من يتحملون هذه الأعباء، وفق حديثه لـ(دروب).
قلة المشافي
منذ اندلاع الحرب كانت مستشفى النو وحدها تعمل في مدينة أمدرمان لوقوعها في مناطق سيطرة الجيش الآمنة نسبياً بعد ما خرجت بقية المستشفيات والمراكز الطبية عن الخدمة، مما جعلها وجهة كل المواطنين المصابين جراء عمليات القصف العشوائي، وتشهد اكتظاظاً على الدوام، في ظل إمكانيات ضعيفة وجهود لشباب متطوعين.
يقول متطوع يعمل في مستشفى النو لـ(دروب) “قبل استعادة الجيش السيطرة على العاصمة الخرطوم في مايو الماضي، كنا نستقبل بشكل يومي من 6 –7 أشخاص من المواطنين مصابين جراء عمليات القصف المدفعي العشوائي على مدينة أم درمان، إذ يحصل الجرحى على علاجات طارئة لمدة 24 ساعة، وتُجرى لهم الجراحات الصغيرة، أما الحالات الخطر تُحول إلى مدينة شندي، ويتكلف ذوي المصابين بكل التكاليف”.
ويضيف “وصلتنا أعداد كبيرة من المصابين بعضهم تقطعت أطرافهم، لقد عانوا كثيراً وغالبيتهم لا يملكون ثمن الدواء، ويخرجون من المستشفى إلى منازلهم، ويموت بعضهم نتيجة فشله في تلقي الرعاية الطبية”.
ووفق المتطوع نفسه، كان السكان الذين يعيشون في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في جنوب وشرق الخرطوم، ويتعرضون للإصابة جراء القصف، يتلقون علاجاً محدوداً في مستشفى بشائر والبان جديد في المنطقة، وهم يواجهون معاناة مضاعفة في الوصول إلى رعاية طبية أفضل، نتيجة انعدام الطرق والمسارات الآمنة في ذلك الحين.
ويقابل دمار المشافي، هجرة للأطباء والتخصصات النادرة إلى خارج السودان نتيجة الحرب، وهو ما فاقم محنة القطاع الصحي، وزاد معاناة المرضى بما في ذلك جرحى الصراع الحالي من المدنيين.
أكثر قسوة
وتبدو حالة مصابي الحرب من المدنيين في إقليمي دارفور وكردفان أكثر قسوة نسبة لانعدام أبسط مقومات الرعاية الطبية، وشح الأدوية، مع استمرار وتيرة العنف. إحدى الصور المأساوية يجسدها نصر محمد مواطن من مدينة نيالا يبلغ من العمر 42 عاماً، فقد أصيب خلال غارة جوية نفذها طيران الجيش السوداني في يونيو 2023م مما تسبب في بتر رجله.
وتحت وتيرة قصف مكثف خضع نصر الذي تحدث مع (دروب) إلى عملية جراحية بُترت خلالها قدمه على عجل، وغادر مستشفى نيالا سريعاً إلى منزله ليواجه مصيرا جعله يتمنى الموت، حيث يزداد الألم مع غياب الأدوية، بينما لم يملك خياراً للخروج من البلاد لتلقي العلاج، فهو عامل بسيط كان يكسب رزقه من على ظهر عربة كارو.
وعلى مدار عامين يعيش واقع قاسي تمثل في ألم الجرح، وزوجتيه وأبنائه وعددهم 15 بنت وولد، الذين أصبحوا بلا معيل ولا أحد ينفق عليهم، بعدما لزم هو فراش المرض الأبيض.
يواجه نصر، واقعه الحياتي الجديد من على فراشه، وهو يستعيد اللحظات العصيبة التي عاشها خلال حادثة القصف التي تعرض لها حيه السكني في مدينة نيالا، وما تخللها من مشاهد صادمة، إذ توفي 4 من جيرانه أمام عينه، وتناثرت أعضاؤهم الجسدية في المكان، وهي أحداث مرعبة ظلت تدور في مخيلته، وتؤلمه أكثر من جرحه النازف، حسب تعبيره.
وهيبة حامد، قصة مأساة أخرى تنافس نفسها، فقد فقدت ابنيها وإحدى قدميها، خلال قصف مدفعي لقوات الدعم السريع في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور أبريل الماضي، ولم تحصل على العلاج اللازم، بل ظلت في مواجهة الجوع، قبل أن تغادر إلى محلية طويلة في رحلة نزوح قاسية.
تقول وهيبة لـ(دروب): “فقدت أبنائي وسندي ورجلي في لحظة واحدة، إنها الأقدار التي نؤمن، لكني أشعر أن حياتي توقفت لا شيء يدعو للتفاؤل، فأنا أعيش وضع نزوح صعب بالكاد نحصل على وجبة واحدة من في اليوم، في شح مياه الشرب وانعدام الأدوية”.
الأولوية للمعارك
ومع ضجيج آلة الحرب، لم يُسمع أنين الجرحى من المدنيين، وهم يواجهون وحدهم مصيراً قاسي، في غياب الاهتمام الرسمي، فيبدو سباق القتال وكسب المعارك لأطراف الصراع أولوية مقدمة على كل شيء.
لكن مدير الطبي العلاجي في وزارة الصحة في الحكومة التي يقودها الجيش من بورتسودان، د. المغيرة عبد الله، ينفي تقاعس السلطات تجاه جرحى الحرب من المواطنين، رغم شح التمويل كانت المستشفيات التي تعمل تقدم خدمة علاج الطوارئ لمدة 24 ساعة مجانا للمصابين، وكانت هناك توجيهات واضحة وقوية بهذا الخصوص، حسب وصفه.
وقال خلال مقابلة مع (دروب): “التحدي الأكبر الذي نواجهه الآن هو إعادة تأهيل المستشفيات والمراكز الطبية التي دمرتها الحرب حتى يتمكن كل من شخص من الوصول إلى الرعاية الطبية بغض النظر عن تكلفتها، كما شرعنا في تنفيذ خطة تستهدف التوسع في مستشفيات الطوارئ على الطرق القومية وداخل المدن”.
ويكشف العدد الكبير من المصابين وما يواجهونه من إهمال بأن الحرب في السودان استهدفت بشكل أساسي المواطنين وأجسادهم، مما يعد جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الجنائي السوداني والقانون الدولي الإنساني، وتستوجب عقاب مرتكبيها في المحاكم المحلية والدولية بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية، وفق ما قاله الخبير القانوني والحقوقي معز حضرة لـ(دروب).
ويشير إلى أن القصف العشوائي على الأعيان المدنية، والذي نتجت عنه معظم القتلى والمصابين من المدنيين، محرم بموجب اتفاقيات جنيف الأربع، والعهدين الدوليين للأمم المتحدة واللذين صادق عليها السودان، ويتحمل جميع العسكريين الذين أشعلوا هذه الحرب مسؤولية هذه الجرائم، ويجب أن يعاقبوا متى ما توفرت بيئة للعدالة عقب توقف الحرب وتشكيل سلطة مدنية ديمقراطية.
وفي واقع شديد الاضطراب في السودان ومع غياب أفق التسوية السلمية للصراع، ربما يطول انتظار رامي الهادي وآلاف الضحايا من المدنيين في الوصول إلى العدالة وتعويض أطرافهم التي بترتها آلة الحرب، بينما تستمر آلام جراحهم النازفة، ومعناتهم مع ظروف المعيشة القاسية.
بقدم واحدة يكافح رامي الهادي في معركة جديدة مع الحياة، ويراوده سؤال المستقبل القريب والبعيد، كيف يعمل ليعيش؟، فبعدما تخرج في كلية العلوم الإدارية جامعة بحري في السودان قبل 4 سنوات، اختار طريق العمل الحر، فتدرب على أعمال النقاشة وأبدع فيها، لكنه قد يفارق هذه المهنة إلى الأبد؛ لأنها تحتاج جسداً بصحة كاملة.
لكن رامي يمتلك عزيمة لا تلين، فقد استطاع انتزاع الضوء عبر نوافذ صغيرة إلى داخل غرفته المظلمة، فمن خلال حاسب آلي بدأ يشق طريقه إلى مجال التصميم الجرافيك ضمن سعيه لإيجاد مصدر بديل للكسب المالي يناسب واقعه الحياتي الجديد، لكن المقابل الذي يكسبه حالياً ضئيل مقارنة باحتياجاته المعيشية، ليظل محاصرا بشظف العيش حسبما ختم به حديثه لـ(دروب).