
قصة قصيرة – الكاتب محمد جابر
المشهد الأول
كان صوتًا مألوفًا في مكانٍ يفتقرُ للكثيرِ من الألفةِ. مُنتعلًا حذائيَ الرياضيَّ الجديدَ، خرجتُ على عجلٍ مخافةَ أن يُباغتني الغروبُ. قَسَتْ عليَّ شيكاغو طوالَ شتاءٍ قارصٍ لم أكنْ مستعدًّا له، درجاتُ حرارةٍ لم أسبقْ لي رؤيتُها سوى في الأفلامِ الوثائقيةِ التي قضيتُ جزءًا لا بأسَ به من طفولتِي أُشاهدُها.
لمدةِ أربعةِ أشهرٍ، حرمتْني قسوةُ السماءِ من ممارسةِ الركضِ، وهي من الهواياتِ التي تأتي مباشرةً بعد الكتابةِ. ازدادَ الصوتُ عذوبةً، كطائرٍ يتلو صلاةَ الفجرِ قبلَ الرحيلِ شمالًا. تأكدتُ من أن بابَ المنزلِ موصدٌ والمفاتيحَ في جيبي آمنةٌ، ثم مضيتُ مُندفعًا بسرعةٍ أربكتْ جسدًا لم يُسدِلْ بعدُ الستارَ على خمولِه الشتويِّ. لم يحدثْ أن ركضتُ دونَ مؤازرةٍ موسيقيةٍ عبر كوكبةٍ من المغنينَ العربِ. لكنني اليومَ، ولدقائقَ معدودةٍ، اخترتُ الجريَ على ألحانِ طفلٍ يُغنّي غيرَ مُكترثٍ برتابةِ العالمِ من حولِه. لمحتُه من بعيدٍ يقفُ على قارعةِ الطريقِ، في يدِه ورقةٌ نقديةٌ يُمسكُها بإحكامٍ، بينما يُنشدُ كلماتٍ بالإنجليزيةِ لم ألتقطْ معظمَها، كان يُغنّي على إيقاعاتٍ منبعثةٍ من عربةِ المثلجاتِ، كأنّه يُحاولُ تسريعَ حركةِ الكونِ عبرَ الغناءِ. مُتذرّعًا بسحرِ المشهدِ، ومتبرّئًا من خيانةِ جسدي لي، توقفتُ عن الركضِ قليلًا. رحتُ أُراقبُ الطفلَ وهو ينتظرُ حلمًا بطعمِ الشوكولاتة يقتربُ منه على مهلٍ.
لكنّ الأحلامَ، بما فيها من مكرٍ دفينٍ، تجدُ في الانحرافِ إغراءً لا يُقاوَمُ. قبلَ أن تصلَ العربةُ إلى الطفلِ، انحرفَ بها السائقُ عبرَ طريقٍ فرعيٍّ. في لحظةٍ انقلبَ الغناءُ نحيبًا، بكى الطفلُ بكاءَ طائرٍ فقدَ جناحيْه قبلَ يومٍ من الرحيلِ. لم أشكَّ للحظةٍ أن السائقَ سيعودُ أدراجَه لتلبيةِ زبونِه الصغيرِ، وأنّ انحرافَه ليسَ إلا جزءًا من رحلةٍ روتينيةٍ، لكنني فضّلتُ ألّا أُراهنَ على عقلانيةِ المنطقِ. انطلقتُ مُسرعًا كي أُلحقَ بحلمِ طفلٍ أسمرَ، لم تكنِ العربةُ قد ابتعدتْ كثيرًا، وصلتُ إلى السائقِ لاهثًا وطلبتُ منه العودةَ.
لبّى الرجلُ طلبي، مُعيدًا رسمَ ابتسامةٍ على ثغرِ الكونِ. لم أتخيّلْ أن يأخذَ الركضُ بيدِ الكتابةِ ويمشيانِ جنبًا إلى جنبٍ على رصيفِ شارعٍ فرعيٍّ في ضواحي شيكاغو. لم يكتفِ الطفلُ بإرغامي على الركضِ خلفَ حُلمِه المُسكّرِ، بل ألهمني أيضًا كي أُوثّقَ رحلتي التي بدأتْ رياضيةً ثم استحالتْ أدبيةً. أكملتُ الطريقَ ورحتُ أبحثُ عن ضحيةٍ جديدةٍ أُنجزُ بها مسيرةَ التدوينِ.
المشهد الثاني
في نهايةِ الشارعِ المُسمّى Cermak، وقربَ متجرٍ لبيعِ الخمورِ، تقومُ حديقةٌ مُتراميةُ الأطرافِ، يتوسطُها ملعبُ بيسبول وآخرُ لكرةِ القدمِ. كانتْ تلك الحديقةُ مقصديَ المُعتادَ لممارسةِ الرياضةِ على أنواعِها. توجّهتُ إلى هناكَ على أملِ العثورِ على طائرٍ جديدٍ يُحلّقُ في سماءِ لغتي. أبٌ يرمي الكرةَ لابنه، فيما يبدو أنها محاكاةٌ بدائيةٌ للعبةِ البيسبولِ، امرأتانِ تُمارسانِ رياضةَ المشيِ السريعِ، فيما تحملُ إحداهما زجاجةَ مياهٍ من ماركة Evian. مشاهدُ لم تحملْ أيَّ جديدٍ يُذكرُ، صورٌ اعتياديةٌ لم تُفلحْ في إثارةِ شهوتي الأدبيةِ. ما هي إلّا دقائقُ حتى لمحتُ ثنائيًّا يقتربُ من الحديقةِ. كان الشابُّ ثلاثينيًّا من عمري تقريبًا، فيما تبدو الفتاةُ في منتصفِ العشريناتِ. كنتُ أركضُ حولَ الملعبِ حينَ تقاطعتْ مساراتُنا، تباطأتْ حركتي بشكلٍ تلقائيٍّ، فجأةً وجدتُ نفسي خلفَهما مباشرةً، وخامرني ظنٌّ أنَّ ذلكَ كان أولَ موعدٍ يجمعُهما. من الصعبِ إخفاءُ الحبِّ في مراحلِه الأولى، فصخبهُ يُشبهُ بكاءَ طفلٍ حديثِ الولادةِ؛ صادقٍ، مفاجئٍ، ولا يمكنُ كتمُه. كانا يمشيانِ بخفّةِ غيمةٍ قد أفرغتْ للتوِّ حمولتَها على أرضٍ قاحلةٍ، والمطرُ الأزرقُ في عينيها يتثاءبُ على استحياءٍ، فيما يترنّحُ ناسكٌ فرغَ لتوّهِ من صلاةِ استسقاءٍ قد أنهكَه تكرارُها. كان السباقُ بيننا غيرَ عادلٍ، أنا أركضُ خلفَ حرفينِ ينقصانِ لتكتملَ أبجديتي، فيما هما يمشيانِ على وَقْعِ ألفِ عامٍ من قصائدِ العشّاقِ. بدأ التعبُ ينالُ مني، الرّكضةُ الأولى بعدَ سباتٍ شتويٍّ ليستْ بالأمرِ السهلِ، لكنني كنتُ لا أزالُ في طورِ البحثِ عن خاتمةٍ لقصيدتي المُنثورةِ على شارعِ Cermak. لم تتأخرْ خاتمتي في الحضورِ، فالعاشقانِ اللذانِ حافظا على مسافةٍ آمنةٍ تفصلُ بينهما، قرّرا في لحظةِ ضعفٍ أن يخلعا خجلَ البداياتِ عبرَ عناقٍ طويلٍ أجبرَ الشمسَ على تأجيلِ غروبِها، لتكونَ شاهدةً على تمرُّدِ الأحرفِ في وجه أبجديّاتِها.
المشهد الثالث
كادتِ الحكايةُ أن تنتهي هنا، لولا الصدفةُ التي جعلتْني أسلكُ طريقًا لم أسلكْه من قبلُ. تذكّرتُ أثناءَ عودتي أنَّ مياهَ الشربِ قد نفدتْ عندي، مما اضطرني للتوجّهِ نحو متجر Tony’s الذي يبعدُ بضعَ دقائقَ عن الحديقةِ العامةِ. كانتِ الطريقُ مُضاءةً بالمصابيحِ، في حينَ يأبى القمرُ أن يعترفَ بأنَّ الوقتَ قد حانَ للتقاعدِ.أسعفني الضوءُ في العثورِ على آخرِ قصائدي، ففي طريقِ العودةِ لمحتُ رجلًا يجلسُ وحيدًا على مقعدٍ قربَ محطةِ الباصِ.راقبتُه من بعيدٍ وقد أنارَ القمرُ وجهَه العجوزَ. كان وحيدًا برفقةِ سبعينَ عامًا وقمرٍ. في البدايةِ اعتقدتُ أنَّه ينتظرُ الباصَ، ولم يكنْ هذا بالأمرِ الذي يستحقُّ أن يكونَ ختامًا لهجرتي الأدبيةِ. مرَّ الباصُ قربَ المحطةِ والرجلُ ظلَّ جالسًا في مكانِه، لم يتحركْ، الكونُ حولَه يسيرُ فيما هو لم يُحرّكْ ساكنًا. لا طفلًا يُغني، ولا عناقًا يُربكُ حساباتِ الفلكِ، مجردُ رجلٍ وقليلٍ من ضوءِ القمرِ. يدانِ يتيمتانِ والمطرُ في عينيه يابسٌ، وقفتُ متأملًا المشهدَ ثم التفتُّ حولي علَّني أجدُ حلمًا قد انحرفَ عن مسارِه. لكنَّ المساءَ قد حلَّ والتعبَ قد نالَ مني، لم يعُدْ بمقدوري الركضُ خلفَ الأحلامِ. اعذرني يا سيدي، يبدو أنَّ بائعَ المثلجاتِ لن يعودَ هذه المرةَ…