أصدقاء دروب

تفاصيل صغيرة، ليست مهمّة.

عبدالحفيظ مريود

د. نافع على نافع، نائب رئيس الحزب للشؤون السياسيّة والتنظيميّة، فيما يستعدُّ لاجتماع قيادىّ، برئاسة الحزب، “النّادى الكاثيوليكى”، بالخرطوم، وأثناء مداولات غير رسميّة، ألقى عبارته الحكيمة (أييىّ زول من دارفور، فيهو بذرة تمرّد). صمتَ الحضور يتلّقون الحكمة المتعالية. لكنَّ بروفسير التّجانى مصطفى، أستاذ الأنثربولوجيا بجامعة الخرطوم، والقيادىّ بالحزب، القادم من “أمبرو”، عمق دار زغاوة، سألَ معترضاً، مستنكراً :”أييىّ زول يا دكتور؟”. أجابه نافع – بحزم فصيح – “أيوا…أيييىّ زول”.

صمتَ بروفسير التّجانىّ. على الأرجح ثمّة تركةٌ، عارٌ، دليلٌ بارز لا يمكنه من تفكيك العبارة الحكيمة، أو مساءلتها منطقيّاً، على الأقل. فقد “تمرّد” الدكتور خليل إبراهيم، جارّاً معه الكثيرين من كوادر المؤتمر الشّعبىّ. والمؤتمر الشّعبىّ نفسه ليس إلّا ترجمة عمليّة للاستجابة الدّفينة للدارفوريين فى الحركة الإسلاميّة للتمرّد.

بوسعى تخيّل الإطار النّظرىّ الذى كان سيعملُ بروفسير التّجانىّ مصطفى ضمنه.

على ماذا، على مَنْ، تشتغل بذور التمرّد فى القادم من دارفور؟

لكنَّ التّجانىّ مصطفى يظلُّ وديعاً، مؤدّباً، رغم كلَّ شيئ. فى الفاشر، فى جلسةٍ صباحيّة على كباية شاى، كان يسرد حصائل نقاشاته مع د. خليل إبراهيم، وأخرى مع د. شريف حرير. خاتماً مداخلاته لخليل إبراهيم بأنّك لن تحلَّ المشكلة القائمة (by doing so). قالها هكذا.

شايف كيف؟

الحكمة المتعالية للدكتور نّافع على نافع ترحّلتْ كثيراً. تمَّ شحنها دلاليّاً، لتشتغلَ فى حقول عدّة، بما أنّها عموميّة، قطعية، ناجزة.

فقد حدث خصامٌ فى تلفزيون السُّودان بين مدير إحدى الإدارات المهمّة، والذى ينحدرُ من دارفور، ومذيعة شهيرة تقدّم برامج سياسيّة. المذيعة صفراءُ، مبهكنة، عطبول. تشبه بعض قصائد الشّاعر محىّ الدّين الفاتح.

(كمْ أحملُ المَوْزَ فى صّدرى، فإنَّ له*

صّدراً كصّدرِكِ، ما خفّتْ حمائلُه)

المذيعةُ ومقدّمةُ البرامج “كوزة” عريقة. زوجها – بوجه من الوجوه – ذو علاقات أمنيّة وسياديّة. رفعتْ تقريراً تنظيميّاً دسماً تسرد فيه ما يقتضى استبعاده عن الإدارة الحساسة. لكنَّ أبرز ما جاء فيه هو أنّه (يشكّلُ تهديداً أمنيّاً لأنّه من دارفور). من ضمنِ محفّزات غضبه كان هذه. ردَّ ردّاً حادّاً قاطعا (على الأقل اسمى ما فيهو جدّ مصرىّ).

شايف كيف؟

هل حدث ذلك صدفةً؟ هل جرى ما جرى لنقص فى المعياريّة الاسلاميّة داخل تنظيم يريدُ أنْ يعيد الدّين إلى عهده الأوّل؟ لماذا صارت المشتركات تتضاءل – باستمرار – داخل التيّار الواحد، قبل أنْ تتضاءل ضمن نطاق أوسع يشملُ “آخرين”؟

العبارةُ المحتشدةُ التى ردَّ بها داوود يحى بولاد على د. جون قرنق حين سأله (لماذا تركتَ “إخوانكَ” وجئتَ إلينا) هى المفتاحيّةُ فى فهم تضاؤل الأرضيّات المشتركة. لاحقاً، وفى أعقاب التوقيع على إتّفاقيتىْ سلام الخرطوم وفشودة، أعملَ على عثمان نفاقه الأمردَ، ففصل المؤتمر الوطنىّ بعضاً من عضويّته (أمين بنانى – مكى على بلايل) لاعتراضهم على (طريقة إنتاج القرارات داخل الحزب والحكومة). كانوا يقفون موقفاً قريباً من د. لام أكول، وزير النّقل. وقد تمّتْ الإطاحة بثلاثتهم من الوزارات التى كانوا يشغلونها. لكنَّ الأمور ستصيرُ أوضحَ بمذكّرة العشرة، فالمفاصلة التى ستفرز (البيض من الحمّيض). فقد ذهب الجنوبيون الإسلاميون و90% من الغرّابة وراء حسن التّرابىّ، فصار المؤتمر الوطنىّ جهويّاً، قبليّاً، يجدُ فى كلّ “موقف مختلف” بذرةَ تمرّدٍ، أو “عنصريّة” مقيتة، كما جرى توصيفُها بعد الحرب.

شايف كيف؟

على هذا الأساس يجرى تأسيس الاختلافات التى قادت البلاد نحو المحرقة.

وعلى هذا الأساس يصطفُ المصطفون وراء (الجيش الوطنىّ – جيش البلاد – جيش الكيزان)، إلّا قليلا.

لكنَّ الأوفق أنْ نهاجم من يعارضنا بأنَّ (الآخرين) : حاقدون، عنصريون، جهويون، يريدون تدمير “السُّودان”.

فالحكمة المتعالية للدكتور نافع ناجزة، صّلدةٌ. ليس ضمن حدود انشغالها الاختلاف الرؤيوى، الفلسفىّ، الفكرىّ، الثقافى أو السياسىّ. ذلك أنَّ فيه متّسعاً للنّقاش، للنّقض، لتجسيير الفجوات المحتمل، ضمن سياق الوطن. لكنّها – بتصميمها ذاك – تقطع أىّ طريق للتواصل. فهى بذرة “تمرّد”. يستوى فى ذلك القريب والبعيد من الدّارفوريين. بولاد، خليل إبراهيم، منّاوى، عبد الواحد، موسى هلال، حميدتى، حسبو، الطاهر حجر. ليس أمام الدّارفورى رفاهية الاختلاف حول مسألة ما. فهو : إمّا “معنا”، على شاكلة : عثمان كِبر، منّاوى وجبريل فى نسختهما الرّاهنة، على محمود، كاشا…الخ، ليتمّ صرف أوراق الوطنيّة لهم. أو “متمرّدون”.

مثل تقرير المذيعة الصفراء المبهكنة التى تُشبهُ قصيدة محىّ الدّين الفاتح ” مهدّد أمنىّ”. بحيث تقطع السبيل إلى مراجعة محتويات التّقرير الأخرى. فليس ثمّة بعد “التّهديد الأمنىّ” من نّقاش. ثمّة حكاية داعمة لهذه النّقطة، نكتة يحلو لزميلنا الصّحفى الفذّ إسماعيل آدم أنْ يحكيها، لا يتّسع المكان لها. لكنّنى قد أحكيها ذات يوم، لأنَّ اسماعيل آدم لم يحضر، بعدُ، إلى مسرح الحكايات.

شايف كيف؟

تتطايق منطلقات د. نافع والمذيعة مع منطلقات الكثيرين ممن يجدرُ بهم الرّحابة. لكنَّ بنية الوعى العميقة جرى تسميمُها – لسنين طويلة – بالحكايات والأحاجى. بحيث لا يمكنُها أنْ تنهض إلى استخلاصات مبرّأةٍ من الهوى والغرض. تتعرقلُ دائماً بجور الاعتساف، كما يقول الإمام على بن أبى طالبٍ عليه السّلام.

سننخرطُ فى الحرب، بضعَ سنين إضافيّة. وفى ذلك تأميلٌ وفسحة أمنيات نبيلة، حتّى لا نصطدمُ بالواقع الذى يقول إنّنا سننخرط فيها لعقود. عسى أنْ تحضر أجيالٌ إلى المشهد، فتنسى الحكمة المتعالية التى تشرّبها د. نافع على نافع من حبّوباته.

شايف كيف؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى