تسرب المعلمين.. أزمة تهدد مستقبل التعليم في السودان

(دروب) 15 أكتوبر 2025 – شهدَ السودان مؤخرًا حالة نادرة متمثلة في تسرب المعلمين من المدارس وعزوفهم عن مواصلة التدريس، وذلك بسبب ظروف مرتبطة بالحرب التي تعصف بالبلاد لنحو ثلاث سنوات مستمرة.
وبحسب معلمون وخبراء فإن أبرز الأسباب التي دفعت المعلمين إلى التسرب والعزوف عن التدريس، هي غياب الأمن وتدني الأجور مقابل التكاليف المرتفعة للمعيشة، فضلًا عن الاعتقالات التي يواجهها المعلمين عند المطالبة بحقوقهم أو الإشارة إلى أوجه القصور في العملية التعليمية.
وتعد المدارس بولاية الخرطوم الأكثر فقدنًا لمعلميها، الأمر الذي دفع إدارة المرحلة الثانوية بالمحلية إلى تجميع الطلاب ودمجهم في 10 مدارس، والطــالبات في 15 مدرسة، وذلك من أصل 54 مدرسة ثانوية بمحلية الخرطوم، وفق لجنة المعلمين السودانيين.
مشهد مأزوم في الخرطوم
في مكتب الإدارة العامة للشؤون التعليمية بمحلية الخرطوم، حالة ازدحام غير مسبوقة لمعلمين ينتظرون الحصول على الاستمارة رقم (66) الخاصة بطلب الإجازة دون راتب.
يقول أحد المعلمين لـ”دروب”: “المشهد مخيف، أغلب الذين لجأوا إلى الخارج طلبوا إجازات دون راتب لتجنب العقوبات الإدارية، والبعض يعمل في مناطق موبوءة بالأمراض، بينما لم تعد الرواتب الضعيفة تكفي احتياجات فرد واحد لأيام معدودة”.
وأضاف أن “كثير من المعلمين يفكرون في الهجرة بسبب تدهور الخدمات وانتشار الأوبئة، في حين يبحث آخرون عن أعمال بديلة لسد احتياجات أسرهم”.
من جهته قال معلم آخر إنه تفاجأ بالعدد الكبير من زملائه الذين تقدموا بطلبات إجازة دون راتب، موضحًا أنه تسلم تفويضًا من عشرة معلمين لسحب الاستمارات نيابة عنهم، فيما كانت إحدى زميلاته تحمل تفويضًا عن ستة آخرين.
وأضاف لـ”دروب”: “أغلب من فوضوني غادروا إلى الخارج منذ اندلاع الحرب، ولا يعتقدون أن الأوضاع في السودان باتت آمنة أو مشجعة على العودة قريبًا”.
التدافع الكبير للمعلمين على طلب الاجازة بدون راتب أغرى مدير الإدارة العامة للشؤون التعليمية بالخرطوم، للحصول على الأموال مقابل منح استمارة الاجازة المطلوبة.
وكانت لجنة المعلمين السودانيين اتهمت مدير الإدارة العامة للشئون التعليمية بمحلية الخرطوم، عمر محمد الحاج أبو هريرة، ببيع استمارة الإجازة بدون مرتب لمدة عام للمعلمين، بمبلغ بدأ بـ“ألفين جنيه للأورنيك الواحد” ثم تدرج السعر حتى بلغ “10 ألف جنيه”. وقالت إن “المعلم يحتاج لأربع استمارات، لتصل جملة المبلغ المتحصل لصالح المدير “40 ألف جنيه”.
وذكر البيان أن التحويل يتم في حساب المدير الشخصي (بنكك) أو تسليمها له شخصياً (نقداً). مشيراً إلى أن لجنة المعلمين تمتلك “إشعارات بنكك” لبعض المعاملات المالية التي تمت بالخصوص.
نقص الكوادر
أكد سامي الباقر، الناطق الرسمي باسم لجنة المعلمين السودانيين، أن المدارس في عدد من الولايات تشهد تسربًا غير مسبوق للمعلمين. وقال لـ”دروب”: “لا توجد إحصاءات دقيقة حتى الآن، لكننا نعمل على حصر المعلمين الذين استأنفوا العمل للمقارنة بمن هاجروا أو تركوا المهنة نهائيًا”.
وأشار إلى أن وزارة التربية ولاية الخرطوم اضطرت إلى دمج خمس مدارس في مدرسة واحدة في إحدى مناطق الخرطوم، نتيجة النقص الكبير في الكوادر. وأضاف أن “أحياء بحري القديمة والخرطوم تعاني عجزًا واضحًا، بينما تشهد مناطق شمال بحري، جبل أولياء، شرق النيل، وكرري وفرة نسبية في الكادر التعليمي”.
وأوضح الباقر أن ضعف الرواتب من الأسباب الرئيسية في تسرب المعلمين، مشيرا إلى أن دراسة أعدتها اللجنة لمعاش المعلم مقارنة براتبه الأساسي، أوضحت أن راتب معلم الدرجة الـ”17″ لا يتجاَوز “12.000” ألف جنيه، بينما لا يتجاوز الراتب الأساسي لمعلم في الدرجة الأولى “77” ألف جنيه، وهو ما لا يغطي احتياجه لأكثر من أربعة أيام مع العلاوات والبدلات، وفق قوله.

واقع مأساوي
من جهته يقول “م،ص” معلم لغة إنجليزية بولاية كسلا، لـ”دروب” إن “تسرب المعلمين هو انعكاس للواقع المأساوي للبيئة المدرسية التي أصبحت طاردة، في ظل انعدام الحوافز المادية والمعنوية، بجانب التهديدات الأمنية، وهو ما سينعكس سلبًا وبصورة كارثية على الجانبين الأكاديمي والتربوي”.
وأوضح أن عددًا كبيرًا من المعلمين في محلية خشم القربة رفضوا استئناف العمل بعد العطلة الصيفية، بسبب عدم التزام إدارة التعليم في الولاية بتحسين شروط الخدمة، مشيرًا إلى أن المعلمين لم يتقاضوا رواتبهم منذ أكثر من ثمانية أشهر، فيما لم يجر أي تحسين في العلاوات والبدلات، بخلاف ما حدث في ولايات أخرى أقرت زيادات.
وأضاف محذرًا: “أخشى أن يزداد عدد المتسربين في الأشهر المقبلة، مما سيعرض مستقبل آلاف التلاميذ لكارثة تربوية حقيقية”.
وأضاف أن “المُعلم يُمنح بدل وجبة شهري قدره (6) آلاف جنيه، بينما سعر طلب فول واحد في السوق (3,500) جنيه. أي أن بدل وجبة شهر كامل لا يكفي ثمن وجبتين فقط”.
وتابع “تخيّل إذا كان لدى المعلم طفل، فالعلاوة المخصصة له (1,000) جنيه فقط، أما العلاوة الاجتماعية على الزواج فهي (100) جنيه لا يقبلها حتى البقال لأنها بلا قيمة”.
اعتقالات
والى جانب الوضع المعيشي الصعب يواجه المعلمين خطر الملاحقة الأمنية والاعتقال التعسفي حال مطالبتهم بمستحقاتهم المالية طرف السلطات. حيث تعرض معلم بولاية كسلا لتوقيف أمني لمطالبته بحقوقه.
وقالت لجنة المعلمين السودانيين في تصريح صحفي يوم الثلاثاء إن “أفراداً من الخلية الأمنية بمدينة كسلا أقدموا على اعتقال الأستاذ طارق ميرغني عبود من منزله في الثامن من أكتوبر الجاري، وذلك على خلفية مطالبته بصرف مرتبات المعلمين بالولاية”.
واستنكرت اللجنة سلوك السلطات إزاء من يطالب بحقوقه المشروعة، واعتبرت ما حدث محاولة بائسة لتكميم الأفواه بالقمع والاعتقال التعسفي، مؤكدة أن الخطوة تمثل استهدافاً واضحاً للمعلمين الذين ينادون بحقوقهم المشروعة.
وحملت لجنة المعلمين الخلية الأمنية بولاية كسلا مسؤولية سلامة عضوها المعتقل، مطالبة بإطلاق سراحه فوراً، مشددة على أن قضية مرتبات العاملين هي قضية حياة لا تحتمل المماطلة أو التجاهل.
تحذيرات من انهيار التعليم
حذر خبير تربوي – فضّل حجب اسمه – من خطورة استمرار تسرب المعلمين، قائلًا إن “غياب الكادر المؤهل يهدد المستقبل الأكاديمي، خصوصًا في المدارس الحكومية، مبيناً ان المدارس قد تستعين بكوادر غير مدربة لسد النقص لكن ما قد يؤدي إلى كارثة تربوية حقيقية”.
وأضاف: “تسرب المعلمين سيضاعف نسبة الفاقد التربوي، ويؤدي إلى عزوف التلاميذ أنفسهم عن الدراسة، إذ يرون في غياب المعلمين هدرًا لوقتهم وجهود أسرهم”.
وختم بقوله: “الحل يبدأ بتهيئة البيئة المدرسية وتحسين أوضاع المعلمين ماديًا ومعنويًا، وإلا فإن السودان سيواجه بعد سنوات جيلاً كاملاً يعاني من ضعف التحصيل وضياع المستقبل الأكاديمي”.
تفاصيل الأجور والمعيشة
تقول لجنة المعلمين في آخر دراسة لتكلفة المعيشة بالسودان، مقارنة بواقع الأجور في كل درجات التعليم. إن تكلفة المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد، هي “مليون و٦٥٢ ألف جنيه سوداني” وتعادل “٤٨٥ دولار تقريبا”.
وأوضحت أن المرتب الأساسي للدرجة (١٧) مدخل خدمة العامل وهو (١٢ ألف جنيه سوداني) أي ما يعادل ثلاثة دولارات ونصف تقريبا، في الشهر. وأن مرتب الدرجة التاسعة مدخل خدمة المعلمين (٢٨ ألف و٨٠٠ جنيه سوداني) وتعادل (٩ دولارات) في الشهر. بينما المرتب الأساسي للدرجة الأولى لمعلم عمل ما يقارب الثلاثين عاما، في الخدمة، (٩٦ ألف جنيه سوداني) يعادل (٣٠ دولارا) في الشهر.
وأضافت أن “تكلفة المعيشة الشهرية لأسرة سودانية مكوّنة من خمسة أفراد تتراوح بين 354,500 جنيه في أقل الولايات، لتصل إلى أكثر من 2,800,000 جنيه في بعض المناطق مثل بورتسودان”.
وفوق ذلك أصدر مجلس الوزراء السوداني في 27 مايو 2025، قرارًا بتخفيض بدل الوجبة الشهري من 90 ألف جنيه إلى 30 ألف جنيه اعتبارًا من يونيو الجاري، ثم تعديله إلى 60 ألف جنيه فقط للعام 2026، على أن يُعاد إلى قيمته الأصلية في عام 2027.
وكانت لجنة المعلمين السودانيين قد علقت على القرار بقولها إنه “يؤكد انعدام الإحساس بمعاناة العاملين في الدولة، ويمثل جريمة مكتملة الأركان في حق مئات الآلاف من العاملين”.



