حقائق

بريق الذهب يسمم شمال السودان بـ”السيانيد”

(دروب) 12 أكتوبر 2025 – شكا مواطنون بشمال السودان من انتشار المصانع العشوائية لاستخلاص الذهب عبر استخدام مادة السيانيد السامة، وسط غياب الرقابة والمحاسبة. فيما كشفت مصادر “دروب” عن دخول “شخصيات عامة” إلى المجال، بينهم نظاميون من التشكيلات العسكرية، الأمر الذي عقد مهمة تنفيذ القانون.

وتتزايد المخاوف في قرى ومدن ولايتي الشمالية ونهر النيل من انتشار أمراض غامضة لم تعرفها المنطقة من قبل، مع اتساع رقعة التعدين العشوائي واستخدام المواد السامة في استخلاص الذهب من مخلفات التعدين المعروفة بـ”الكرتة”.

كل صباح تقريباً، يسمع الأهالي عن اكتشاف موقع جديد لمعالجة “الكرتة” بطرق عشوائية. وبينما تُغلق بعض المواقع تحت ضغط المواطنين، تبقى أخرى تعمل في الخفاء بعيداً عن أعين السلطات.

يقول مواطنون لـ”دروب” إن هذه الأنشطة تتزايد رغم أن استخدام السيانيد دون ضوابط الشركة السودانية للموارد المعدنية يُعدّ مخالفة جسيمة. ومع ذلك، لم يُعرف عن معاقبة أي شخص على مدار أكثر من عقد ونصف، بحسب عامل في التعدين الأهلي بوادي حلفا، تحفظ على ذكر اسمه.

قال المصدر لـ”دروب”: “خلال 15 عاما من عملي لم أرَ أحداً يُعاقب على مخالفة تتعلق بالسيانيد، لكن بعد الحرب دخلت شخصيات غريبة إلى المجال، بينهم نظاميون من الجيش والأمن والشرطة، وهذا ما جعل تنفيذ القانون أمراً شبه مستحيل”.

موقع تعدين بشمال السودان

ينصّ قانون تنمية الثروة المعدنية لسنة 2000 (تعديل 2020) في مادته (32) على معاقبة من يستخدم مواد التعدين الخطرة دون تصديق بالمحاكمة ومصادرة الموقع والآليات.

وفي السياق يقول المحامي محمد توفيق أحمد لـ”دروب”: “القانون واضح وصارم، ويجب تقديم كل من يستخدم السيانيد خارج الضوابط إلى المحاكمة دون رأفة، لأن الأضرار تمتد لعقود على البيئة وصحة الإنسان”.

أمراض غريبة

من الظواهر التي لفتت انتباه السكان الزيادة الكبيرة في عدد المستشفيات والصيدليات الخاصة في وادي حلفا.

يقول ناشط محلي: “قبل سنوات لم نكن نعرف أمراض السرطان أو الفشل الكلوي. الآن يوجد مركز لغسيل الكلى وعدة مستشفيات مكتظة بالمرضى. الوضع الصحي تغيّر جذرياً منذ دخول التعدين العشوائي المنطقة”.

وبحسب مصادر طبية محلية، تم تسجيل نحو 60 حالة إصابة بالسرطان خلال الأشهر الأخيرة في وادي حلفا وحدها. مشيرة إلى أن عدد المرضى الذين يسعون للعلاج في مصر تضاعف  خلال الأشهر الماضية.

كما يروي أحد سكان مدينة وادي حلفا أنه أثناء تصريف مياه السيول من منزله لاحظ في الخريف الماضي وجود رمال غريبة تسبب حساسية شديدة عند لمسها. ويُعتقد أن هذه الرمال ملوثة ببقايا مواد كيميائية من مواقع معالجة الذهب القريبة.

لم تكن الحوادث الأخيرة الأولى من نوعها. ففي عام 2014، اكتشف أحد المزارعين بمنطقة “الدويشات” نفوق أعداد كبيرة من الطيور قرب بركة تحتوي على بقايا سيانيد تابعة لشركة المهوقني.

ووُصفت المشاهد حينها بأنها “مرعبة”، إذ بدت مناقير بعض الطيور وكأنها ذابت بفعل مادة كيميائية قوية. ورغم إرسال عينات إلى المعمل القومي (ستاك) في الخرطوم، لم تُعلن نتائج التحليل حتى اليوم.

اعتقالات للناشطين

في ظل غياب التدخل الرسمي، رفع سكان الولاية الشمالية شعارات تطالب بحظر استخدام السيانيد نهائياً. لكن هذه المطالب قوبلت بالاعتقالات، إذ احتُجز عدد من الناشطين في مدينة عبري لأيام قبل إطلاق سراحهم.

وقفة احتجاجية لمناهضة استخدام السيانيد لاستخلاص الذهب

يقول أحد الناشطين في حماية البيئة لـ”دروب”: “المنشآت العشوائية تنتشر بصورة مخيفة في محليتي وادي حلفا ودلقو. السلطات لا تتحرك، والمواطن هو من يكتشف المواقع بالصدفة. نعتقد أن بعض الأجهزة الرسمية على علم بهذه الأنشطة أو تتورط فيها لمكاسب مالية”.

أكد مصدر محلي لـ”دروب” أن شخصيات نافذة في الأجهزة الأمنية متورطة في حماية هذه الأنشطة، قائلاً إن “ضباطاً في الجيش والشرطة والأمن نُقلوا فجأة من وادي حلفا يعتقد ان لديهم علاقة بهذه الانشطة”، مشيراً إلى أن مسؤولاً أمنياً رفيعاً يُشتبه في إخفائه أدلة قضية مصنع معالجة المخلفات الذي اكتشف مؤخرا في واحد بعد تسلمها.

بلاغات واتهامات، ثم صمت

بعد اكتشاف مصنع لمعالجة الكرتة على بعد 3 كيلومترات فقط من الأحياء السكنية بوادي حلفا، قيّدت الشرطة بلاغاً “ضد مجهول”، رغم العثور على عبوات سيانيد. لكن ضغط الأهالي أجبرها لاحقاً على توقيف بعض المتهمين، بينهم سائق صهريج كان يمدّ المصنع بالمياه.

وفي وقت لاحق، أصدرت النيابة إعلاناً للقبض على متهمين هاربين، من بينهم أبوبكر إبراهيم عبد الله_محمد شاكر محمد شريف_ أهدلي أحمد حسن عبد الله وذلك بموجب البلاغ رقم (258/2025) تحت مواد من قانون الثروة المعدنية وقانون حماية البيئة والقانون الجنائي السوداني.

وكان المجلس الأعلى لأهالي حلفا، اتهم في وقت سابق، جهات نظامية بمحاولة إنقاذ منسوبيها المتورطين في قضية استخدام السيانيد في عمليات التعدين بشكل عشوائي. وقال إن الجهات النظامية أصدرت قرارات بتنقلات عاجلة ومنح إجازات لعدد من الضباط والأفراد المرتبطين بملف استخدام مادة السيانيد في التنقيب عن الذهب بصورة عشوائية.

ويقع أحد مواقع المعالجة العشوائية داخل منطقة حددتها اليونسكو كمحمية طبيعية تضم أشجاراً وسلاحف متحجرة نادرة. ويصف ناشط بيئي ذلك بقوله: “ما حدث جريمة مركبة: بيئية وأثرية وصحية في آن واحد”.

صورة أوسع للفوضى

في ولاية نهر النيل، تتكرر القصة. يقول مهندس يعمل في التعدين لـ”دروب”: “المعالجة بالسيانيد والزئبق صارت أمراً علنياً. بعض المنازل تحولت إلى مصانع استخلاص ذهب وسط الأحياء السكنية، دون أي رقابة”.

وأضاف أن “الوالي السابقة آمنة المكي أصدرت قراراً بمنع هذه الأنشطة، لكن الانقلاب أعادها بقوة. الآن تُباع أدوات المعالجة في السوق العلني أمام أعين السلطات”.

وفي منطقة صواردة التابعة إلى محلية وادي حلفا، يتهم السكان شركة مملوكة لجهاز الأمن والمخابرات بالعمل في مجال معالجة مخلفات التعدين التقليدي “الكرتة” واستخلاص الذهب باستخدام مادة السيانيد السامة، بالقرب من مصادر المياه.

وَأَوْقَفَ نشاط “الشركة الدولية” التابعة لجهاز الأمن بقرار من وكيل وزارة المعادن السودانية في العام 2019، بناء على تقييم أجراه فريق من الخبراء والفنيين، أثبت مخالفتها للمعايير والاشتراطات الصحية والبيئة، حيث يبعد مقرها عن نهر النيل بأربعة كيلومترات فقط، في حين ينبغي أن يكون البعد القانوني المطلوب 25 كيلو متراً على الأقل. لكن بعد انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021م، أصدرت وزارة المعادن قرار استئناف يسمح للشركة الدولية بالعمل من نفس مقرها الحالي.

ومع استمرار مقاومة الأهالي، لم تتمكن الشركة الدولية، من مواصلة العمل، وبعد اندلاع الحرب الحالية كررت محاولاتها لاستئناف نشاطها، إلا أن السكان لم يتوقفوا عن مناهضتها.

وتُعَالَج مخلفات التعدين التقليدي “الكرتة” من خلال عدة أحواض على الأرض، وتُغمر بالمياه، ومن ثم تضاف لها مادة السيانيد، لاستخلاص الذهب، وأثناء هذه العملية تتسرب المياه على مساحات واسعة في التربة.

وتعتبر معالجة الكرتة، النشاط الأكثر شيوعا في قطاع التعدين في السودان، وتعمل عدة شركات متخصصة في هذا المجال من خلال عقود امتياز وتصديق من السلطات الحكومية المعنية، فهي ذات مكاسب سريعة وكبيرة، حيث يستخلص المعدنيين التقليديون 40 بالمئة فقط من الذهب الموجود في الأحجار التي يستخرجونها من باطن الأرض؛ لأنهم يستخدمون معينات بدائية، بينما تأتي الشركات، وتستخرج الـ60 بالمئة المتبقية في “الكرتة” بعد معالجتها بمادة السيانيد.

من نفوق الطيور إلى إصابة البشر، ومن مصانع في قلب المحميات إلى بلاغات ضد مجهول، تتسع دائرة الخطر في شمال السودان. بينما تظل أسئلة السكان معلقة.. من يحمي المواطنين من سموم الذهب، ومتى تتحرك الدولة لإنقاذ ما تبقى من الأرض والناس. أم أن نفوذ “الكبار” سيُبقي الحقيقة مدفونة مثل الذهب في باطن الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى