بين المعاناة والمحاباة: حين تتحول الإغاثة إلى سؤال في العدالة الوطنية

عبدالمنعم العمرابي
الوخز بالابرة
مأساة واحدة.. ومعايير متعددة
لا يمكن للوطن أن يحتمل أزمات متتالية ثم يسمح بأن تُدار هذه الأزمات بمعايير مزدوجة فالسودانيون من أقصى الشمال إلى أقصى الغرب يدفعون ثمن حرب لم يختاروها وفقدوا بيوتهم وأمنهم وسبل عيشهم. ومع ذلك فإنّ طريقة التعامل مع النازحين تختلف من ولاية لأخرى ومن جماعة لأخرى حتى بات السؤال مشروعًا لماذا لا تُعامل الكوارث الإنسانية بمعايير واحدة؟
وخزة عميقة
مشاهد لا تُنسى: نازحو الجزيرة وسنار بين المدارس والشوارع
عندما نزح الآلاف من أهل الجزيرة وسنار إلى ولايات نهر النيل والشمالية وجد كثيرون أنفسهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء سكنوا المدارس مؤقتًا ثم طُلب منهم المغادرة مع بداية العام الدراسي فانتقلوا إلى الساحات والمباني غير المكتملة وبعضهم عاش بجوار الميناء البري في عطبرة في ظروف لا تليق بكرامة المواطن ورغم أن المساعدات لم تنقطع تمامًا إلا أنها جاءت محدودة جدًا مقارنة بحجم الكارثة ولم تظهر إرادة رسمية أو أهلية لإنشاء مراكز إيواء متكاملة أو مخيمات مُجهزة بمياه وكهرباء وخدمات.
وخزة ثانية
مخيم الدبة: كرم أم استثناء؟
في المقابل جاء تعامل السلطات والأهالي مع نازحي الفاشر في مخيم الدبة مختلفًا تمامًا حيث جرى توفير إيواء كامل بدءًا من حفر الآبار وتوصيل الكهرباء وصولًا إلى الخدمات الأساسية هذا الجهد الإنساني مقدّر ولا ينبغي أن يُنتقص منه.
لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا:
لماذا يحصل مواطنون على كامل الرعاية بينما ترك آخرون في العراء؟
هل تُدار الكوارث بروح وطنية واحدة أم بحسابات سياسية وأمنية؟
وخزة ثالثة
الإنسانية لا تتجزأ
النجدة والإيواء واجب إنساني لا يُقدّم على أساس الجهة أو القبيلة أو الخلفية الاجتماعية حين تُمارس المعايير المزدوجة فإنها تُغذي شعورًا بالغبن وتفتح الباب للتأويلات والشكوك وتضعف الثقة بين مكونات الوطن الواحد.
وخزة عنداللزوم
هاجس التغيير الديمغرافي مخاوف حاضرة
في ظل ما يعيشه السودان من حرب وصراع يصبح أي تحرك سكاني واسع محاطًا بالأسئلة النزوح الجماعي من دارفور وترك مناطق واسعة بلا سكان يثير مخاوف حقيقية وواقعية لدى كثيرين هل يتم تفريغ الإقليم من أهله؟
هل تُستغل الكارثة لإحداث واقع جديد على الأرض؟
هذه المخاوف ليست جديدة ولا تأتي من فراغ فالإقليم شهد لسنوات محاولات لإعادة تشكيل خريطته السكانية عبر الحرب والحرق والترويع وهي حقائق موثقة لا يمكن تجاهلها لكن الأخطر اليوم هو أن يحدث هذا التغيير تحت غطاء الإغاثة الإنسانية أو بحسن نية من المواطنين.
وخزة رابعة
بين الرعاية والخوف: أين تقف الحقيقة؟
ثمة من يعتقد أن الحفاوة الكبيرة ببعض النازحين ليست كرمًا خالصًا بل خوفًا من احتمالات أمنية أو تجنبًا لصدامات محتملة بينما يرى آخرون أن الاحتضان نابع من الأخلاق السودانية التي لا تُقصي محتاجًا لكن الحقيقة التي لا يمكن القفز فوقها هي
إن الإغاثة حين ترتبط بالخوف أو الحسابات الأمنية فإنها تفقد معناها الإنساني وتفتح الباب للتمييز ما نحتاجه سياسة وطنية موحدة للنزوح
لتجاوز هذه الفوضى الإنسانية لا بد من اعتماد معايير موحدة لإغاثة كل النازحين لا يهم من أين جاء النازح ولا خلفيته ولا قوميته الإنسانية مبدأ واحد لا يتجزأ منع استغلال النزوح في أي مشاريع سياسية أو ديمغرافية سواء بقصد أو بدون قصد يجب أن يكون واضحًا أن النزوح ظرف استثنائي لا يُغيّر الحواكير ولا الحقوق التاريخية.
تعزيز شفافية إدارة المخيمات حتى لا تتحول الإغاثة إلى غطاء لشيء آخر وضع خطة وطنية لإعادة النازحين إلى ديارهم
الهدف النهائي يجب أن يكون العودة الآمنة لا الاستقرار الدائم في مخيمات خارج بيئاتهم الأصلية.
وخزة اخيرة
وطن لا يحتمل مزيدًا من الشروخ
السودان اليوم في لحظة حرجة وأخطر ما يمكن أن يحدث هو خلق إحساس لدى بعض المواطنين بأنهم أقل قيمة من غيرهم أو أن أوجاعهم لا تستحق الالتفات والوطن لا يُبنى بالعواطف المتقطعة بل بالمساواة الصارمة
والإغاثة ليست منّة بل حق.
والمخاوف لا تُعالج بالصمت بل بالشفافية.
نسأل الله أن تنجلي المحنة وأن يعود كل نازح من دارفور والجزيرة وسنار وكل شبر إلى أرضه وبيته وكرامته وأن يبقى السودان وطنًا لكل أبنائه بلا تمييز ولا تفرقة



