العقلية الإنتهازية للنخب المركزية

عزيز الدودو
أفضل إستثمار في السودان ليس في التعليم أو التنمية، بل في الجهل والكراهية. هذه هي الحقيقة المرة التي كشفتها عقود من سياسات النخب الحاكمة، التي وجدت في غباء الشعب وتناقضاته المجتمعية أرضاً خصبة لتعزيز سيطرتها. والترابي، ذلك الرجل الذي عاد من السوربون، أعرق جامعات العالم، كان يمكن أن يكون رمزاً للتنوير والتغيير، لكنه اختار طريقاً آخر: طريق الاستثمار في تخلف المجتمع بدلاً من تطويره.
لم يكن الترابي عبقرياً بمعنى الكلمة، لكنه كان انتهازياً بارعاً. أدرك أن الشعب السوداني، بجهله العميق وانقساماته التاريخية، يشكل “مورداً خاماً” مجانياً يمكن استغلاله. فبدلاً من أن ينقل أفكار التنوير التي تلقاها في أوروبا، اختار توظيف الدين والسياسة كأدوات لتأجيج الصراعات وتكريس التخلف. والنتيجة؟ مجتمع ممزق، يعيد إنتاج نفس الحلقة المفرغة من الصراعات، بينما تترسخ النخب في مراكز السلطة والثروة.
اليوم، لا يزال هذا النهج هو السائد. فالشعب السوداني، بغالبيته، ما زال يعاني من الجهل المزروع والكراهية المغذية. وهذه ليست صدفة، بل سياسة مُمنهجة. خذ مثالاً على ذلك ما كشفه ياسر العطا عن وجود كتائب عسكرية من أولاد أمدرمان مقسمة على أسس قبلية وإثنية: نوبة هنا، مساليت هناك، وغيرهم من المجموعات التي يتم توظيفها كوقود للحروب. هذه ليست أخطاء عفوية، بل مخطط دقيق لضمان أن يبقى الصراع داخلياً، وأن تظل النخب المركزية فوق الجميع.
الاستراتيجية واضحة: إذا تمردت القبائل الأفريقية، ستواجه بالقبائل العربية، وإذا ثارت القبائل العربية، ستواجه بالنوبة أو الزغاوة أو المساليت. “اضرب العبد بالعبد” – هذه هي القاعدة الذهبية التي تحكمها. فطالما ظل أبناء الهامش غارقين في غبائهم وكراهيتهم، ستظل النخب الحاكمة، مثل العطا ومن حوله، في نعيمهم المقيم.
السؤال الأكبر: متى ندرك أننا، كشعب، لسنا ضحايا للصدفة، بل ضحايا لمنظومة مصممة لتبقينا أغبياء ومنقسمين؟ الجهل والكراهية ليسا قدراً محتوماً، بل هما أداتان في يد من يريدون السيطرة علينا. والعلاج في هذه الحالة هو الوعي، لا شيء غير الوعي، عن طريق تنقية العقول من سموم التفرقة، وإدراك أن مصلحة النخب ليست مصلحة الوطن.