أصدقاء دروب

 تكايا فاشر السلطان أول وآخر خطوط الدفاع عن العرض والأرض والقيم

كتب – عامر أبوه حمد

ليست الحرب في أصلها أكثر من مرآةٍ كاسرةٍ لحقيقة البشر. كل حربٍ منذ بدأ الإنسان يجرّ السيف هي مرتعٌ للغدر والخيانة والدم المراق والضمائر الرخيصة. من يطلب من الحرب أن تُنبت ورداً أو تزرع سلاماً كمن يطلب من النار أن تهدي البستان ظلاً بارداً.

الحرب في السودان – هذه التي تلتهم الحجر و البشر منذ لحظتها الأولى – ليست استثناءً من هذه القاعدة السوداء: مشروع خرابٍ مطلق، لا رابح فيه إلا تجّار الدم و وكلاء الخراب ومقاولو الصفقة الرخيصة الذين باعوا وطناً كاملًا في سوق المزايدات.

وبرغم هذا اليقين الثقيل، فإن من رحم الحريق يخرج ما يثبت أن القيم الأصيلة لا تموت، و أن الشعوب التي تهاجمها الدبابات لا تكسرها إلا إذا مات فيها حارس الخبز و الأمل. و هذه هي حكاية الفاشر اليوم: حكاية قدرٍ يغلي وسط القذائف، يطهو كسرة خبزٍ باردةٍ يلتف حولها جياعٌ لم يسألهم أحد عن لونهم و لا قبائلهم و لا أوراقهم الثبوتية. حكاية تكايا تُطهى على نارٍ مبلولةٍ بدم الشهداء و تُوزع أرغفةً مطهّرةً بدموع الأمهات.

منذ اشتعلت هذه الحرب، صارت مفردات الخراب هي القاموس الوحيد: تهجيرٌ جماعي، قصفٌ أعمى، أحياءٌ بلا أضواء و لا أرغفة. أطفالٌ هربوا من مدارسهم إلى خيامٍ على أطراف المدن، و عائلاتٌ فرّقتهم الرصاصات،  لكن وسط كل هذا، لم تخرج لجان الإغاثة من قصور السياسيين و لا مكاتب النخب الناعمة، و إنما خرجت من أحياءٍ بالكاد تجد فتات ما تأكل، خرجت من شبابٍ لم يتلوثوا بشعارات الأحزاب الإنتهازية، من جيرانٍ سدّوا فراغ الدولة المنهارة بصدورهم و أحضانهم و أرغفتهم، حين لم يجد الفقراء أحداً يطرق أبوابهم إلا لجان الطمع أو سيارات المليشيا.

في دارفور، في قلبها النابض بالعزة و الإباء –  فاشر السلطان – صار هذا المعنى حياً ملموساً. مدينةٌ يعرف تاريخها و حاضرها معنى الصمود و الرباط منذ عهود الممالك و السلطنات. لم تخنها السنون و لم تكسرها البنادق و لا الهجمات الغادرة، و بين أنقاضها اليوم و تحت زخات القذائف التي صارت اعتياديةً حتى تحولت إلى خلفيةٍ للحياة اليومية، بقيت التكايا مفتوحةً بلا مفاتيح، بقي قدر العدس يغلي فوق النار، و قدر الفاصوليا و الدخن و حطبٌ يشعله جائعٌ ليطهو لجائعٍ آخر. لا يسأل أحدٌ الداخلين عن قبائلهم، لا يفتشون الهويات، و يكفي أنهم بشرٌ يحملون معدةً خاويةً و قلباً يرتجف من رعبٍ صار مألوفًا أكثر من لقمته البسيطة.

هذه التكايا، في ظاهرها قِدرٌ وقدر، وفي جوهرها تجسيدٌ عميقٌ لوحدةٍ مجتمعيةٍ لم تفهمها يوماً موائد السياسة. حين تقصف الدانات الأسواق و تُقفل أبواب المنظمات التي تتاجر بالصور في تقارير المنح والهبات، تبقى التكية آخر حارسٍ للخبز و آخر شاهدٍ على أن في هذه الأرض بذرة حياةٍ لا تحرقها القنابل.

لكن إن كانت الحرب تخرج أطيب ما في البعض، فهي تخرج كذلك أسوأ ما في آخرين. حيث لم تكتفِ مليشيا الجنجويد بأن تقتل و تنهب و تروّع، بل جرّت خلفها ذيولاً مدنيةً انتهازيةً صبغت الخراب بألوانٍ ثوريةٍ كاذبةٍ و زيّنت الرصاص بخطبٍ ناعمةٍ عن “التغيير” و “إعادة هندسة السلطة”. فهؤلاء هم الوجه الآخر للرصاصة: شريكٌ بلا بزةٍ عسكريةٍ لكنه يكتب البيانات و يوزعها على الشاشات و يهلل للدم تحت ستار “الحياد” و “موازنة القوى”. كل أمٍ تنبش تحت ركام بيتها عن جثة ابنها تجد هؤلاء واقفين في الظل: صامتين حيناً، محرضين أحياناً و مسوقين دائماً.

و فيما ظلّت العواصم تُنظِّر لحلولٍ ورقيةٍ لم تعنِ يوماً شيئاً لأمٍ في الفاشر و لا أبٍ في غيرها من بقاع السودان، ظلّت التكايا – في صمتٍ ناصعٍ لا تعرفه المؤتمرات الصحفية – تردّ على القصف بأوانٍ تغلي، و تردُّ على الجوع بموائد تُفرش على أرضٍ تغطيها شظايا البارود. و هنا – في الفاشر – يسقط كل خطابٍ زائفٍ حين تجلس أمٌ فقدت بيتها لتأكل من يدٍ لم تسألها شيئاً. هنا تُفكّك السياسة إلى مكوناتها الأولية: من يطهو و من ينهب، من يقاسم كسرة الرغيف و من يقايض أرواح الناس في سوق السلطة.

هذه التكايا تقول في لغتها الصامتة: هذه الحرب لم تكن صدفةً، بل مؤامرةٌ رعاها مستفيدون و تواطأ فيها المتاجرون، و لكنها ستسقط كما سقط غيرها لأن هذا الشعب لم يمت بعد. وهنا في وسط الرماد والدم، وسط صمت المتفرجين ودموع المكلومين، يُطبخ الأمل على نارٍ متعبةٍ لكنها لا تنطفئ. ومن ظنّ أن السلاح وحده يحسم المعارك فليأتِ ليرَ كيف يهزم قدرُ بليلةٍ مليشيا مجرمة مكتملة العدة والعتاد، وكيف تكسر كسرة خبزٍ حاجز الخوف وتفتح في قلب الخراب نافذةً صغيرةً يمرُ منها الغد.

إن بقي من هذه الحرب شيءٌ نافعٌ، فهو أنّها فضحت من تزيّا بثياب الوطنية وهو في باطنه تاجرٌ للخراب، وعرّت من باع الخرائط والقرارات على موائد الفنادق، وكشفت من صرخ باسم الثورة وهو يبيع دماء الثوار في اتفاقاتٍ سريةٍ ومحاصصاتٍ لا تطعم جائعاً ولا تدفع رصاصةً عن جسدٍ أعزل. وكل هؤلاء ستسقط أسماؤهم في أوراق التاريخ حين يُكتب بأسماء الذين أضاؤوا موقداً في الفاشر – وغيرها من المدن و القري – ولم يسألوا أحداً إلا: هل أكلت اليوم؟

وهنا – في قلب هذه الحقيقة – تستحق التكايا و شبابها كل شهادة تقديرٍ يكتبها الصدق لا المجاملة. شهادة شكرٍ وامتنانٍ أرفعها من عمق الكلمات لعز شباب الفاشر – وغيرها من المدن – وفخارها المساهمين بالجهد والعرق والسهر والمال، الذين بقوا على قدر المسئولية، يشعلون الحطب وسط القصف، يوزعون الرحمة بلا منٍ و لا سؤال، و يثبتون أن شرف الموقف لا يُشترى و لا يُباع. أنتم و أمثالكم من شباب التكايا أول و آخر خطوط الدفاع عن الأرض و العرض و القيم حين خانها تجار السياسة و مقاولو الخراب.

سيُكتب الحق يوماً باسم التكايا التي صمدت تحت القصف مثل صمود جيوشٍ كاملةٍ  صمدت و رابطت تحمي الوطن. سيُكتب باسم لجان الأحياء التي نظمت صفوف الخبز حين فقد الناس طوابير البنزين. سيُكتب باسم الأمهات اللواتي اقتسمن اللقمة قبل أن يكتمل نضجها. و حين تُعاد لهذه الأرض سيرتها الأولى – و لو بعد حين – سيقال: ما حمى السودان حقاً لم يكن خطاباً و لا اتفاقاً و لا بندقيةً – فقط – بل موقدٌ صغيرٌ يغلي فوقه قدر تكيةٍ وسط الركام و الدم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى