النقابات ليست إدارة إنها مقاومة.. لا لعودة الصوت المُدجّن

كتبت / تماضر بكرى
في عالمٍ يُقاس فيه الإنسان بما يُنتج لا بما يستحق، تبرز النقابات العمالية كأحد آخر الأصوات الحرة التي تُدافع عن الكرامة قبل الأجر، وعن العدالة قبل التنظيم. لم تُخلق النقابات لتكون امتدادًا للسلطة أو ذراعًا إداريًا يُنظم الغضب، بل وُجدت لتكون جدارًا أخلاقيًا في وجه الاستغلال، ومنصةً للحقوق التي لا تُمنح بل تُنتزع.
النقابة الحقيقية لا تُدار من مكاتب السلطة، بل تُولد من وجع العامل، من صوته المبحوح في الورش، ومن يده التي لا تعرف الراحة. إنها ليست هيكلًا تنظيميًا بل ضميرًا جماعيًا يرفض أن يُعامل الإنسان كآلة. في السودان، لم تكن النقابات يومًا مجرد أدوات تنظيمية، بل كانت جبهات نضال حقيقية، كما جسّدتها نقابة عمال السكك الحديدية التي قادت أولى الإضرابات ضد الاستعمار البريطاني في ثلاثينيات القرن الماضي. لم تطالب فقط بتحسين ظروف العمل، بل كانت جزءًا من الحراك الوطني الذي طالب بالاستقلال والعدالة، ونجحت في فرض أول قانون للعمل والعمال عام 1948، لتصبح نموذجًا للنقابة التي تربط بين المطلب المهني والموقف الوطني.
النقابة تُعيد تعريف العلاقة بين العامل وصاحب العمل: ليست علاقة خضوع بل علاقة تفاوض، وتُطالب بحقوق لا تُمنح منّة بل تُنتزع بالوعي والضغط المشروع. وعندما تُصبح النقابات تابعة للسلطة، تفقد قدرتها على الدفاع، وتتحول إلى واجهة شكلية تُستخدم لامتصاص الغضب لا لتغييره. النقابة التي لا تُعارض، لا تُفاوض، لا تُحرّك، ليست نقابة بل إدارة موارد بشرية بزيّ نضالي.
المطلوب اليوم هو إعادة بناء النقابات على أساس حقوقي لا تنظيمي، وفصلها عن السلطة التنفيذية، وجعلها مستقلة في القرار والتمويل، ودعم النقابات المستقلة التي تُعبّر عن صوت العامل لا صوت الحكومة. النقابة ليست رفاهية ديمقراطية بل ضرورة إنسانية، إنها الحصن الأخير في وجه التهميش، والنداء الأول حين يُسحق الحق تحت عجلة الربح.
ولهذا، فإن أي محاولة لإعادة إنتاج النقابات القديمة التي كانت خاضعة للسلطة، مجرد التفاف على مطالب العمال، وعودة إلى زمن الصمت المُنظّم. لا مكان اليوم لنقابات تُدار من فوق، بل لنقابات تنبع من الأرض، من صوت العامل، من حقه في أن يُسمع ويُحترم ويُحمى.
مع من أجل نقابات تعبر عن العاملين لا تدعم السلطة